صفحة جزء
2110 166 - ( حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا عمرو بن دينار قال : أخبرني طاوس أنه سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول : بلغ عمر أن فلانا باع خمرا ، فقال : قاتل الله فلانا ، ألم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قاتل الله اليهود ; حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ) .


مطابقته للترجمة في قوله : حرمت عليهم الشحوم فجملوها ، بالجيم ، والحميدي بضم الحاء المهملة هو عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي المكي ، وهو من أفراد البخاري ، وسفيان هو ابن عيينة ، وكان الحميدي أثبت الناس فيه ، وقال : جالسته تسع عشرة سنة أو نحوها ، والحديث أخرجه البخاري أيضا في ذكر بني إسرائيل عن علي بن عبد الله ، عن سفيان ، وأخرجه مسلم في البيوع أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، وإسحاق بن إبراهيم ، ثلاثتهم عن ابن عيينة به ، وعن أمية بن بسطام عن يزيد بن زريع ، وأخرجه النسائي في الذبائح ، وفي التفسير عن إسحاق بن إبراهيم به ، وأخرجه ابن ماجه في الأشربة عن أبي بكر بن أبي شيبة به . قوله : قاتل الله فلانا قال البيضاوي : أي عاداهم ، وقيل : قتلهم ، فأخرج في صورة المبالغة أو عبر عنه بما هو سبب عنه ، فإنهم بما اخترعوا من الحيل انتصبوا لمحاربة الله ومقاتلته ، ومن قاتله قتله .

وقال الخطابي : قيل : إن الذي فيه عمر - رضي الله تعالى عنه - هذا القول سمرة ، فإنه خللها ثم باعها ، وكيف يجوز على مثل سمرة أن يبيع عين الخمر وقد شاع تحريمها ؟! لكنه أول فيها بأن خللها وغير اسمها كما أولوه بالإذابة في الشحم ، فعابه عمر على ذلك ، انتهى .

قلت : قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، وإسحاق بن إبراهيم ، واللفظ لأبي بكر قال : حدثنا سفيان عن عمرو ، وعن طاوس ، عن ابن عباس قال : بلغ عمر - رضي الله تعالى عنه - أن سمرة باع خمرا ، فقال : قاتل الله سمرة ، ألم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها " ، ورواه البيهقي من طريق الزعفراني عن سفيان ، وزاد في روايته سمرة بن جندب . وقال القرطبي وغيره : اختلف في تفسيره بيع سمرة الخمر على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية فباعها منهم ، معتقدا جواز ذلك .

والثاني : أن يكون باع العصير ممن يتخذه خمرا ، والعصير يسمى خمرا كما يسمى العنب به ; لأنه يؤول إليه ، قال الخطابي : ولا يظن بسمرة أنه باع عين الخمر بعد أن شاع تحريمها ، وإنما باع العصير .

والثالث : أن يكون خلل الخمر وباعها لما ذكرنا آنفا .

وقال [ ص: 37 ] الإسماعيلي في كتابه المدخل : يجوز أن سمرة علم بتحريمها ولم يعلم بحرمة بيعها ، ولو لم يكن كذلك لما أقره عمر على عمله ، ولعزله لو فعله عن علم ، انتهى . وهذا يرد قول بعضهم : ولم أر في شيء من الأخبار أن سمرة كان واليا لعمر على شيء من أعماله ، انتهى ، لأن قول الذي اطلع على شيء حجة على قول من يدعي عدم الاطلاع عليه ، وأيضا الدعوى بعدم رؤية شيء في الأخبار الذي نقله غير واحد من الحفاظ غير مسموعة ; لأنه يبعد أن يطلع أحد على جميع ما وقع في قضية من الأخبار .

قوله : قاتل الله اليهود فسره البخاري من رواية أبي ذر باللعنة ، وهو قول ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ، وقال الهروي : معناه قتلهم الله ، وحكي عن بعضهم : عاداهم ، والأصل في فاعل أن يكون من اثنين ، وربما يكون من واحد ، مثل سافرت وطارقت . قوله : فجملوها بالجيم ، أي : أذابوها ، يقال : جمل الشحم يجمله ، من باب نصر ينصر إذا أذابه ، ومنه الجميل ، وهو الشحم المذاب ، وقال الداودي : ومنه سمي الجمال ; لأنه يكون عن الشحم وليس هذا بين ; لأنه قد يكون بعد الهزال . وقال بعضهم : وجه تشبيه عمر - رضي الله تعالى عنه - بيع المسلمين الخمر ببيع اليهودي المذاب من الشحم الاشتراك في النهي عن تناول كل منهما .

قلت : هذا لا يسمى تشبيها لعدم شروط التشبيه فيه ، وإنما هو تمثيل ، يعني بيع فلان الخمر مثل بيع اليهودي الشحم المذاب ، والمعنى حال هذا الرجل الذي باع الخمر العجيبة الشأن ، كحال اليهود الذين حرم عليهم الشحم ، ثم جملوه فباعوه ، وعلماء البيان قد فرقوا بين التشبيه والتمثيل ، وجعلوا لكل واحد بابا مفردا ، نعم إذا كان وجه التشبيه منتزعا من أمور يسمى تمثيلا كما في تشبيه : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا فإن تشبيه مثل اليهود الذين كلفوا بالعمل بما في التوراة ، ثم لم يعملوا بذلك بمثل الحمار الحامل للأسفار ، فإن وجه التشبيه بينهما وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع الكد والتعب في استصحابه لا يخفى كونه منتزعا من عدة أمور .

وقال هذا القائل أيضا : كل ما حرم تناوله حرم بيعه . قلت : قد ذكرنا فيما مضى أن هذا ليس بكلي ، فإن الحية يحرم تناولها ولا يحرم بيعها للضرورة للتداوي ، وقال أيضا : وتناول الخمر والسباع وغيرهما مما حرم أكله ، إنما يتأتى بعد ذبحه ، وهو بالذبح يصير ميتة ; لأنه لا ذكاة له ، وإذا صارت ميتة صار نجسا ولم يجز بيعه ، انتهى .

قلت : كان ينبغي له أن يقول هذا في مذهبنا ; لأن من لم يقف على مذاهب العلماء في مثل هذا ، يعتقد أنه أمر مجمع عليه ، وليس كذلك ، فإن عندنا ما لا يؤكل لحمه إذا ذبح يطهر لحمه حتى إذا صلى ومعه من ذلك أكثر من قدر الدرهم تصح صلاته ، ولو وقع في الماء لا ينجسه ; لأنه بالذكاة يطهر ; لأن الذكاة أبلغ من الدباغ في إزالة الدماء والرطوبات ، وقال الكرخي : كل حيوان يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة ، فهذا يدل على أنه يطهر لحمه وشحمه وسائر أجزائه ، وفي البدائع : الذكاة تطهر المذكى بجميع أجزائه إلا الدم المسفوح هو الصحيح ، وقال ابن بطال : أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة بتحريم الله تعالى لها ، قال تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم واعترض بعض الملاحدة بأن الابن إذا ورث من أبيه جارية كان الأب وطأها ، فإنها تحرم على الابن ، ويحل له بيعها بالإجماع وأكل ثمنها .

وقال القاضي : هذا تمويه على من لا علم عنده ; لأن جارية الأب لم يحرم على الابن منها غير الاستمتاع على هذا الولد دون غيره من الناس ، ويحل لهذا الابن الانتفاع بها في جميع الأشياء سوى الاستمتاع ، ويحل لغيره الاستمتاع وغيره ، بخلاف الشحوم فإنها محرمة ، المقصود منها وهو الأكل منها على جميع اليهود ، وكذلك شحوم الميتة محرمة الأكل على كل أحد ، فكان ما عدا الأكل تابعا ، بخلاف موطوءة الأب .

وفي الحديث لعن العاصي المعين ، ولكن يحتمل أن قول عمر كان للتغليظ ; لأن هذا كلمة تقولها العرب عند إرادة الزجر ، وليست على حقيقتها ، وفيه إبطال الحيل والوسائل إلى المحرم .

وفيه تحريم بيع الخمر ، وقال ابن المنذر وغيره : فيه الإجماع ، وشذ من قال : يجوز بيعها ، ويجوز بيع العنقود المستحيل باطنه خمرا .

وقال بعضهم : فيه أن الشيء إذا حرم عينه حرم ثمنه ، قلت : هذا ليس بكلي ، وقال أيضا : فيه دليل على أنبيع المسلم الخمر من الذمي لا يجوز ، وكذا توكيل الذمي المسلم في بيع الخمر ، قلت : لا خلاف في المسألة الأولى ولا في الثانية ، ولكن الخلاف فيما إذا وكل الذمي المسلم ببيع الخمر ، والحديث لا يدل على مسألة التوكيل من الجانبين .

وفيه استعمال القياس في الأشباه والنظائر ، وقال بعضهم : واستدل به على تحريم جثة الكافر إذا قتلناه وأراد الكفار شراءه . قلت : وجه هذا الاستدلال من هذا الحديث غير ظاهرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية