صفحة جزء
2179 3 - ( حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدثني يوسف بن الماجشون عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن جده عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال : كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة ، وأحفظه في صاغيته بالمدينة ، فلما ذكرت الرحمن قال : لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية ، فكاتبته عبد عمرو ، فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس ، فأبصره بلال ، فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار ، فقال أمية بن خلف : لا نجوت إن نجا أمية ، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا ، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم ، فقتلوه ثم أبوا حتى يتبعونا - وكان رجلا ثقيلا - فلما أدركونا قلت له : ابرك فبرك ، فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه ، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه ، وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه ) .


مطابقته للترجمة من حيث إن عبد الرحمن بن عوف وهو مسلم في دار الإسلام كاتب إلى أمية بن خلف وهو كافر في دار الحرب بتفويضه إليه لينظر فيما يتعلق به ، وهو معنى التوكيل ; لأن الوكيل إنما هو مرصد لمصالح موكله وقضاء حوائجه ، ورد بهذا ما قاله ابن التين ليس في هذا الحديث وكالة إنما تعاقد أن يجير كل واحد منهما صاغية صاحبه .

فإن قلت : بمجرد هذا أيصح توكيل مسلم حربيا في دار الحرب قلت : الظاهر أن عبد الرحمن لم يفعل هذا إلا باطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه ، فدل على صحته .

فإن قلت : الترجمة في شيئين ، والحديث لا يدل إلا على أحدهما ، وهو توكيل المسلم حربيا وهو في دار الحرب قلت : إذا صح هذا فتوكيله إياه في دار الإسلام يكون بطريق الأولى أن يصح ، وقال ابن المنذر : توكيل المسلم حربيا مستأمنا وتوكيل الحربي المستأمن مسلما لا خلاف في جواز ذلك .

( ذكر رجاله ) وهم خمسة ، الأول : عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو ، أبو القاسم القرشي العامري الأويسي ، الثاني : يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، بفتح الجيم وكسرها ، الثالث : صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي ، يكنى أبا عمرو ، الرابع : أبوه إبراهيم بن عبد الرحمن القرشي ، يكنى أبا إسحاق ، وقيل : أبا محمد ، توفي سنة ست وتسعين ، الخامس : عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف القرشي ، أبو محمد ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، توفي سنة اثنتين وثلاثين ، ودفن بالبقيع .

( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه القول في موضعين ، وفيه أن شيخه من أفراده ، ولفظ الماجشون هو لقب يعقوب ، وهو لفظ فارسي ومعناه المورد ، وفيه أن الرواة [ ص: 129 ] كلهم مدنيون .

والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي مختصرا ، عن عبد العزيز بن عبد الله أيضا .

( ذكر معناه ) :

قوله : " كاتبت أمية بن خلف " ، يعني : كتبت إليه كتابا . وفي رواية الإسماعيلي : عاهدت أمية بن خلف وكاتبته ، وأمية بضم الهمزة وفتح الميم المخففة ، وتشديد الياء آخر الحروف ابن خلف بالخاء واللام المفتوحتين ابن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر . وقال علماء السير : كان أمية بن خلف الجمحي أشد الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء في يوم بعظم نخر ، ففته في يده . وقال : يا محمد تزعم أن ربك يحيي هذا ، ثم نفخه ، فطار ، فأنزل الله تعالى : قال من يحيي العظام وهي رميم قوله : " صاغيتي " بصاد مهملة وغين معجمة هي المال . وقيل : الحاشية ، يقال : صاغية الرجل حاشيته ، وكل من يصغي إليه ، أي : يميل ، وعن القزاز صاغية الرجل أهله ، يقال : أكرموا فلانا في صاغيته ، أي : في أهله . وقال الهروي : خالصته . وقال الكرماني : الصاغية هم القوم الذين يميلون إليه ويأتونه ، أي : أتباعه وحواشيه . ( قلت ) : فعلى هذا تكون الصاغية مشتقة من صغيت إلى فلان ، أي : ملت بسمعي إليه ، ومنه : ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وكل مائل إلى شيء أو معه ، فقد صغى إليه ، وأصغى . وفي حديث الهرة : أنه كان يصغي لها الإناء ، أي : يميله إليها ليسهل عليها الشرب منه . وقال ابن الأثير : الصاغية خاصية الإنسان والمائلون إليه ، ذكره في تفسير هذا الحديث . وقيل : الأشبه أن يكون هذا هو الأليق بتفسير هذا الحديث ، والله تعالى أعلم . وقال ابن التين : ورواه الداودي : ظاعنتي ، بالظاء المشالة المعجمة والعين المهملة بعدها نون ، ثم فسره بأنه الشيء الذي يسفر إليه ، قال : ولم أر هذا لغيره . قوله : " لا أعرف الرحمن " قال بعضهم : أي : لا أعترف بتوحيده . ( قلت ) : هذا الذي فسره لا يقتضيه قوله : " لا أعرف الرحمن " وإنما معناه : أنه لما كتب إليه ذكر اسمه بعبد الرحمن ، فقال : ما أعرف الرحمن الذي جعلت نفسك عبدا له ، ألا ترى أنه قال : كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية ، وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو ، فلذلك كاتبه عبد عمرو . وقيل : كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة ، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن . وقال صاحب التوضيح معناه : لا أعبد من تعبده ، وهذه حمية الجاهلية التي ذكرت حين لم يقرؤوا كتابه - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية لما كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا : لا نعرف الرحمن ، اكتب باسمك اللهم . قوله : " ولما كان يوم بدر " ، يعني : غزوة يوم بدر ، وكانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية قاله عروة بن الزبير وقتادة والسدي ، وأبو جعفر الباقر . وقيل : غير ذلك ، ولكن لا خلاف أنها في السنة الثانية من الهجرة ، وبدر بئر لرجل كان يدعى بدرا ، قاله الشعبي . وقال البلاذري : بدر اسم ماء لخالد بن النضر بينه وبين المدينة ثمانية برد . قوله : " لأحرزه " بضم الهمزة من الإحراز ، أي : لأحفظه . وقال الكرماني : لأحوزه من الحيازة ، أي : الجمع ، وفي بعضها من الحوز ، أي : الضبط والحفظ ، وفي بعضها من التحويز ، أي : التبعيد . قوله : " حين نام الناس " ، أي : حين رقدوا ، وأراد بذلك اغتنام غفلتهم ليصون دمه . قوله : " فأبصره بلال " ، أي : أبصر أمية بلال بن حمامة رضي الله تعالى عنه . قوله : " فقال " ، أي : بلال . قوله : " أمية بن خلف " بالنصب على الإغراء ، أي : الزموا أمية . وفي رواية أبي ذر بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أمية . وقال بعضهم : خبر مبتدأ مضمر . ( قلت ) : لا يقال لمثل هذا المحذوف مضمر ، وليس بمصطلح هذا ، والفرق بين المضمر والمحذوف قائم . قوله : " لا نجوت إن نجى أمية " إنما قال ذلك بلال ; لأن أمية كان يعذب بلالا بمكة عذابا شديدا لأجل إسلامه ، وكان يخرجه إلى الرمضاء إذا حميت ، فيضجعه على ظهره ، ثم يأخذ الصخرة العظيمة ، فيضعها على صدره ويقول : لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد ، فيقول بلال : أحد أحد . قوله : " فخرج معه " ، أي : فخرج مع بلال فريق من الأنصار ، وكان قد استصرخ بالأنصار ، وأغراهم على قتله . قوله : " خلفت لهم ابنه " ، أي : ابن أمية واسمه علي . قوله : " لأشغلهم " بضم الهمزة من الإشغال ، يعني : يشتغلون بابنه عن أبيه أمية . قوله : " فقتلوه " ، أي : قتلوا ابنه . وقال عبد الرحمن بن عوف : فكنت بين أمية وابنه آخذ بأيديهما ، فلما رآه بلال صرخ بأعلى صوته : يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف ، فأحاطوا بنا ، وأنا أذب عنه ، فضرب رجل ابنه بالسيف ، فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط ، فقلت : انج نفسك ، فوالله لا أغني عنك شيئا . قوله : " ثم أبوا " من الإباء بمعنى الامتناع ، ويروى : ثم أتوا من الإتيان . قوله : " وكان رجلا ثقيلا " ، أي : كان أمية رجلا ضخما . قوله : " فلما أدركونا " ، أي : قال [ ص: 130 ] عبد الرحمن لما أدركنا الأنصار وبلال معهم . ( قلت له ) : أي : لأمية ابرك أمر من البروك ، فبرك ، فألقيت عليه نفسي لأمنعه منهم . قوله : " فتجللوه بالسيوف بالجيم " ، أي : غشوه بها ، هكذا في رواية الأصيلي ، وأبي ذر . وفي رواية غيرهما بالخاء المعجمة ، أي : أدخلوا أسيافهم خلاله حتى وصلوا إليه وطعنوا بها من تحتي من قولهم خللته بالرمح ، واختللته : إذا طعنته به . ووقع في رواية المستملي : فتحلوه بلام واحدة مشددة ، والذي قتل أمية رجل من الأنصار من بني مازن . وقال ابن هشام : ويقال قتله معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وخبيب بن أساف اشتركوا في قتله ، والذي قتل علي بن أمية عمار بن ياسر . قوله : " وأصاب أحدهم " ، أي : أحد الذين باشروا قتل أمية رجلي بسيفه .

( ذكر ما يستفاد منه ) :

فيه : أن قريشا لم يكن لهم أمان يوم بدر ، ولهذا لم يجز بلال ومن معه من الأنصار أمان عبد الرحمن ، وقد نسخ هذا بحديث يجير على المسلمين أدناهم .

وفيه : الوفاء بالعهد ; لأن عبد الرحمن كان صديقا لأمية بمكة ، فوفى بالعهد الذي كان بينهما . وقال عبد الرحمن : وكان اسمي عبد عمرو ، فسميت عبد الرحمن حين أسلمت كما ذكرناه ، وكان يلقاني بمكة ، فيقول : يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك ، فأقول : نعم ، فيقول : إني لا أعرف الرحمن ، فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به ، فسماه عبد الإله ، فلما كان يوم بدر مررت به ، وهو واقف مع ابنه علي بن أمية ومعي أدراع ، وأنا أحملها ، فلما رآني قال : يا عبد عمرو ، فلم أجبه ، قال : يا عبد الإله . ( قلت ) : نعم . قال : هل لك في ، فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك . ( قلت ) : نعم ، فطرحت الأدراع من يدي ، وأخذت بيده ويد ابنه ، وهو يقول : ما رأيت كاليوم قط ، فرآهما بلال ، فصار أمره ما ذكرنا ، وكان عبد الرحمن يقول : رحم الله بلالا ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري .

وفيه : مجازاة المسلم الكافر على البر يكون منه للمسلم والإحسان إليه على جميل فعله ، والسعي له في تخليصه من القتل وشبهه .

وفيه أيضا : المجازاة على سوء الفعل بمثله ، والانتقام من الظالم .

وفيه : أن من أصيب حين يتقي عن مشرك أنه لا شيء فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية