(قوله: " إن رجلا من الأنصار خاصم nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير في شراج الحرة ") قيل: إن هذا الرجل كان من الأنصار نسبا، ولم يكن منهم نصرة ودينا، بل كان منافقا، لما صدر عنه من تهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجور في الأحكام لأجل قرابته، ولأنه لم يرض بحكمه، ولأن الله تعالى قد أنزل فيه: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية... [النساء: 65]. هذا هو الظاهر من حاله، ويحتمل: أنه لم يكن منافقا، ولكن أصدر ذلك منه بادرة نفس، وزلة شيطان، كما قد اتفق nindex.php?page=showalam&ids=195لحاطب بن أبي بلتعة ، ولحسان ، ومسطح ، وحمنة في قضية الإفك، وغيرهم ممن [ ص: 154 ] بدرت منهم بوادر شيطانية، وأهواء نفسانية، لكن لطف بهم حتى رجعوا عن الزلة، وصحت لهم التوبة، ولم يؤاخذوا بالحوبة.
و " الشراج " بالشين والجيم المعجمتين، جمع شرجة، وهي مسيل الماء إلى النخل والشجر. وإضافتها إلى الحرة لكونها فيها.
والمخاصمة إنما كانت في السقي بالماء الذي يسيل فيها، وكان nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير يتقدم شربه على شرب الأنصاري، فكان nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير يمسك الماء لحاجته، فطلب الأنصاري أن يسرحه له قبل استيفاء حاجته، فلما ترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سلك النبي صلى الله عليه وسلم معهما مسلك الصلح، فقال له: " اسق يا زبير ! ثم أرسل الماء إلى جارك "، أي: تساهل في سقيك، وعجل في إرسال الماء إلى جارك، يحضه على المسامحة والتيسير. فلما سمع الأنصاري بهذا لم يرض بذلك، وغضب لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة، فقال: " آن كان ابن عمتك ؟ ! " بمد همزة " أن " المفتوحة؛ لأنه استفهام على جهة الإنكار، أي: أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك؟ ! وعند ذلك تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا عليه وتألما من كلمته. ثم إنه بعد ذلك حكمnindex.php?page=showalam&ids=15للزبير باستيفاء حقه، فقال: " اسق يا زبير ، ثم أمسك الماء حتى يرجع إلى الجدر ". وفي غير هذه الرواية: " فاستوعى nindex.php?page=showalam&ids=15للزبير حقه ".
[ ص: 155 ] و " الجدر " بفتح الجيم وسكون الدال هي روايتي، ويجمع: جدورا. وهو الأصل، ويعني به: حتى يصل الماء إلى أصول النخل والشجر، وتأخذ منه حقها. وفي بعض طرقه: " حتى يبلغ الماء إلى الكعبين " فيعني به - والله أعلم -: حتى يجتمع الماء في الشربات، وهي الحفر التي تحفر في أصول النخل والشجر إلى أن تصل من الواقف فيها إلى الكعبين.
وقد روي " الجدر " بكسر الجيم، وهو الجدار، ويجمع على " جدر " ويعني به: جدران الشربات، فإنها ترفع حتى تكون تشبه الجدار. فإن قيل: كيف كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=showalam&ids=15للزبير على الأنصاري في حال غضبه وقد قال صلى الله عليه وسلم: " nindex.php?page=hadith&LINKID=31887لا يقضي القاضي وهو غضبان "؟
فالجواب: أنا قدمنا أن هذا النهي معلل بما يخاف على القاضي من التشويش المؤدي به إلى الغلط في الحكم، والخطأ فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام، بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى وفي أحكامه، ولذلك قالوا: أنكتب عنك في الرضا والغضب؟ قال: " نعم ". فدل ذلك: على أن المراد بالحديث: من يجوز عليه الخطأ من القضاة، فلم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العموم.
و (قوله: " والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، هذا أحد ما قيل في سبب نزول هذه الآية. [ ص: 156 ] وقيل: نزلت في رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال له: ارفعني إلى nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ، وقيل: إلى nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر ، وقيل: حكم النبي صلى الله عليه وسلم ليهودي على منافق، فلم يرض المنافق، وأتيا nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب فأخبراه، فقال: أمهلاني حتى أدخل بيتي، فدخل بيته فأخرج السيف، فقتل المنافق، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه رد حكمك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فرقت بين الحق والباطل ". وقال nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد نحوه، غير أنه قال: إن المنافق طلب أن يرد إلى حكم الكاهن، ولم يذكر قضية قتل nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب المنافق، وقال nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : لا ينكر أن تكون الآية نزلت في الجميع، والله تعالى أعلم.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه، فمنها: الاكتفاء من الخصوم بما يفهم عنه مقصودهم، وألا يكلفوا النص على الدعاوي، ولا تحديد المدعى فيه، ولا حصره بجميع صفاته، كما قد تنطع في ذلك قضاة الشافعية.
ومنها: أن الأولى بالماء الجاري: الأول فالأول حتى يستوفي حاجته . وهذا ما لم يكن أصله ملكا للأسفل مختصا به، فليس للأعلى أن يشرب منه شيئا، وإن كان يمر عليه.
ومنها: الصفح عن جفاء الخصوم ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع، والاستهانة بالأحكام، فإن كان ذلك فالأدب، وهذا الذي صدر من خصم [ ص: 157 ] nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لما قدمناه من عظم حلمه وصفحه، ولئلا يكون قتله منفرا لغيره عن الدخول في دين الإسلام، فلو صدر اليوم مثل هذا من أحد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لقتل قتلة زنديق، وقد أشبعنا القول في ذلك.
ومنها: أن القدر الذي يستحق الأعلى من الماء: كفايته، وغاية ذلك: أن يبلغ الماء إلى الكعبين، فقيل: في الشربة، كما قلنا، وقيل: في أرض الحائط، وفيه بعد.