و (قوله: " كيف يأتيك الوحي؟ " سؤال عن كيفية تلقي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي عن الملك ، والمراد بالوحي هنا: ما يلقى للنبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والأحكام، فأجاب صلى الله عليه وسلم بأن ذلك يأتيه على حالتين:
قلت: والذي عندي في هذا الحديث: أن هذا تشبيه لأصوات خفق أجنحة الملائكة، فيعني: أنها متتابعة متلاحقة، لا أن الله تعالى يتكلم بصوت، فإن كلامه تعالى ليس بحرف، ولا صوت، كما هو مبرهن عليه في موضعه، فإن أراد هذا القائل: أن كلام الله تعالى القائم به صوت يسمع بحاسة الأذن، فهو غلط فاحش، وما هذا اعتقاد أهل الحق، وإن أراد: أن الملائكة تسمع كلام ملك آخر يبلغهم عن [ ص: 172 ] الله بصوت فصحيح، كما تقرر ذلك في حق جبريل ، فيما كان يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم.
و (قوله: " وهو أشده علي ") إنما كان أشد عليه لسماعه صوت الملك الذي هو غير معتاد، وربما كان شاهد الملك على صورته التي خلق عليها، كما أخبر بذلك عن نفسه في غير هذا الموضع، وكان يشتد عليه أيضا؛ لأنه كان يريد أن يحفظه ويفهمه مع كونه صوتا متتابعا مزعجا، ولذلك كان يتغير لونه، ويتفصد عرقا، ويعتريه مثل حال المحموم، ولولا أن الله تعالى قواه على ذلك، ومكنه منه بقدرته لما استطاع شيئا من ذلك، ولهلك عند مشافهة الملك، إذ ليس في قوى البشر المعتادة تحمل ذلك بوجه.
والحالة الثانية: وهي أن يتمثل له الملك في صورة رجل، فيكلمه بكلامه المعتاد، فلا يجد إلى ذلك شيئا من المشقات، والشدائد، وهذا كما اتفق له معه حيث تمثل له في صورة الأعرابي، فسأله عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وكما كان يأتيه في صورة nindex.php?page=showalam&ids=202دحية بن خليفة ، وكانت صورته حسنة، والحاصل من هذا الحديث، ومن قوله تعالى: فتمثل لها بشرا سويا [مريم: 17] ومن غير ذلك من الكتاب والسنة: أن الله تعالى قد مكن الملائكة، والجن من التشكل في الصور المختلفة، والتمثيل بها، مع أن للنوعين في أنفسهما خلقا خاصة بهما، خلقهما الله تعالى عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: " nindex.php?page=hadith&LINKID=883335لم أر جبريل على صورته التي خلق عليها غير مرتين ". والبحث عن كيفية ذلك التمثيل بحث ليس وراءه تحصيل، والواجب التصديق بما جاء من ذلك، ومن أنكر وجود الملائكة والجن وتمثلهم في الصور فقد كفر.
[ ص: 173 ] و (قوله: " فيفصم عني، وقد وعيت عنه ") أي: يذهب عني، ويقلع. يقال منه: فصم، وأفصم بالفاء، ومنه قوله تعالى: لا انفصام لها والله سميع عليم [البقرة: 256] أي: لا انقطاع، والفصم - بالفاء -: انصداع من غير بينونة، وبالقاف: انصداع مع بينونة. هذا أصلهما، ثم قد يتوسع في كل واحد منهما.
و " وعيت ": فهمت وحفظت. تقول العرب: وعيت العلم - ثلاثيا - وأوعيت المتاع في الوعاء - رباعيا - وأصلهما: من جعلت الشيء في الوعاء، غير أن استعمالهم فرق بينهما كما قلناه.
وقد اقتصر في هذا الحديث على ذكر طريقي الوحي، ولم يذكر الرؤيا، وهي من الوحي كما تقدم؛ لأنه فهم عن السائل: أنه إنما سأل عن كيفية تلقيه الوحي من الملك، والله أعلم.