وفي رواية قال : فتنافرا إلى رجل من الكهان . قال : فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه . قال : فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا .
وفيها أيضا قال : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام . وفيها بعد " بتحية الإسلام " قال : قلت : السلام عليك يا رسول الله ! قال : وعليك السلام ، من أنت؟
وفيها : فقال nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر : أتحفني بضيافته الليلة.
واسمه جندب - على الأصح والأكثر - ابن جنادة بن قيس بن عمرو بن مليل بن حرام بن غفار ، وغفار بن كنانة بن مدركة بن إلياس بن قصي بن نزار .
هو من كبار الصحابة رضي الله عنه وعنهم ، قديم الإسلام ، يقال : أسلم بعد أربعة [ ص: 391 ] فكان خامسا ، ثم انصرف إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام الحديبية بعد أن مضت بدر وأحد والخندق ، ويدل على كيفية إسلامه وتفصيل أحواله حديثه المذكور في الأصل ، وكان قد غلب عليه التعبد والزهد ، وكان يعتقد أن جميع ما فضل عن الحاجة كنز وإمساكه حرام ، ودخل الشام بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوقع بينه وبين nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية نزاع في قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة . . . الآية [التوبة: 34] ، فشكاه nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية إلى nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان فأقدمه nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان المدينة فقدمها ، فزهد nindex.php?page=showalam&ids=1584أبو ذر في كل ما بأيديهم ، واستأذن nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان في سكنى الربذة فأذن له ، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذن له في البدو ، فأقام بالربذة في موضع منقطع إلى أن مات بها سنة اثنتين وثلاثين على ما قاله nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق ، وصلى عليه nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود منصرفه من الكوفة في ركب ، ولم يوجد له شيء يكفن فيه ، فكفنه رجل من أولئك الركب في ثوب من غزل أمه ، وكان قد وصى ألا يكفنه أحد ولي شيئا من الأعمال السلطانية ، وخبره بذلك معروف .
روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مائتي حديث وواحدا وثمانين حديثا ، أخرج له منها في الصحيحين ثلاثة وثلاثون حديثا .
غريب حديث nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر رضي الله عنه :
الشنة : السقاء البالي ، والشنان : الأسقية ، واحدها شن ، وكل جلد بال فهو شن . ويقال للقربة البالية : شنة ، وهي أشد تبريدا للماء من الجدد .
وقوله " ما أنى للرجل " ؛ أي : ما كان ، يقال : أنى وآن - بمعنى واحد ، و " تقفوه " : تتبعه .
وقوله " لأصرخن بها " ؛ أي : بكلمة التوحيد .
" بين ظهرانيهم " : يعني المشركين بمكة .
[ ص: 392 ] وقوله " فنثا علينا خالنا الذي قيل له " ؛ أي : أظهر لنا بالقول ، يقال : النثى - بتقديم النون والقصر - في الشر والكلام القبيح ، وإذا قدمت الثاء ومددت فهو الكلام الحسن الجميل .
وقوله " لا جماع لك " ؛ أي : لا اجتماع يبقى بيننا .
و " الصرمة " : القطعة من الإبل نحو الثلاثين ، وقد تكون الصرمة في غير هذا: القطعة من النخل ، والصرم القطع .
وقوله " فنافر أنيس عن صرمتنا ، وعن مثلها " ؛ أي : التزم أن من قضي له بالغلبة أخذ ذلك ، قال أبو عبيد : المنافرة أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه ثم يحكما رجلا بينهما ، والنافر : الغالب ، والمنفور : المغلوب . يقال : نفره ، ينفره ، وينفره ، نفرا - إذا غلب عليه .
وقوله " فأتيا الكاهن فخير أنيسا " ؛ أي غلبه وقضى له ، وكانت منافرته في الشعر أيهما أشعر .
وقوله " وقد صليت قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، هذا إلهام للقلوب الطاهرة ومقتضى العقول السليمة ، فإنها توفق للصواب وتلهم للرشد .
[ ص: 393 ] وقوله : " ألقيت كأني خفاء " ، الرواية في " ألقيت " بضم الهمزة وكسر القاف مبنيا لما لم يسم فاعله . والخفاء بكسر الخاء والمد : هو الغطاء ، وكل شيء غطيته بكساء أو ثوب فذلك الغطاء خفاء ، ويجمع أخفية - قاله أبو عبيد . وقال nindex.php?page=showalam&ids=13147ابن دريد : الخفاء كساء يطرح على السقاء .
و (قوله : " فراث علي ") ؛ أي : أبطأ .
و (قوله : " وضعت قوله على أقراء الشعر ") ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة : يريد أنواعه وطرقه ، واحدها قرء . فيقال : هذا الشعر على قرء هذا .
و (قوله : " فتضعفت رجلا ") ؛ أي : رأيته ضعيفا فعلمت أنه لا ينالني بمكروه ولا يرتاب بمقصدي .
و (قوله : " كأني نصب أحمر ") ؛ أي : قمت كأني لجريان دمي من الجراحة التي أصبت بها أحد الأنصاب ، وهي الحجارة التي كانوا يذبحون عليها فتحمر بالدماء .
فأما زمزم فقال ابن فارس : هو من قولهم زمزمت الناقة إذا جعلت لها زماما تحبسها به ، وذلك أن جبريل ـ عليه السلام ـ لما همز الأرض بمقاديم جناحيه ففاض الماء زمتها هاجر ، فسميت : زمزم .
و (قوله : " ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر ") ، كذا الرواية الصحيحة " أقراء " [ ص: 394 ] بالراء جمع قرء على ما تقدم ، وقيده العذري " أقواء " بالواو ، ورواه بعضهم بالواو وكسر الهمزة ، قال القاضي : لا وجه له .
و (قوله : " فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ") ، هكذا الرواية عند جميع الشيوخ ، " بعدي " بالباء بواحدة والعين المهملة بمعنى غيري ، يقال : ما فعل هذا أحد بعدك - أي : غيرك . كما يقال ذلك في " دون " ، وهو كثير فيها . ومعنى الكلام أنه لما اعتبر القرآن بأنواع الشعر تبين له ليس من أنواعه ، ثم قطع بأنه لا يصح لأحد أن يقول إنه شعر ، ووقع في بعض النسخ " يقري " بفتح الياء ، قال القاضي : وهو جيد ، وأحسن منه " يقري " بضمها ، وهو مما تقدم ، يقال : أقرأت في الشعر ، وهذا الشعر على قرء هذا ، وقرؤه : أي قافيته ، وجمعها : أقراء . وفي بعض النسخ أيضا " على لسان أحد يعزى إلى شعر " ؛ أي : ينسب إليه ويوصف به - وللروايات كلها وجه .
و (قوله : " فما وجدت على كبدي سخفة جوع ") ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي : السخفة [ ص: 395 ] الخفة ، ولا أحسب قولهم سخيف إلا من هذا .
و (قوله : " في ليلة قمراء إضحيان ") ، القمراء : المقمرة ، وهي التي يكون فيها قمر ، ويسمى الهلال قمرا من أول الليلة الثالثة إلى أن يصير بدرا ، ثم إذا أخذ في النقص عاد عليه اسم القمر . وإضحيان - بكسر الهمزة والضاد المعجمة : معناه كثير ضوء قمرها . قال nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة : ويقال ليلة إضحيان وإضحيانة وضحيانة - إذا كانت مضيئة .
و (قوله : " ضرب على أصمختهم ") ؛ أي ناموا ، ومنه قوله تعالى : فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا [الكهف: 11] ؛ أي : أنمناهم . الأصمخة جمع صماخ ، وهو خرق الأذن ، وهو بالصاد ، وقد أخطأ من قاله بالسين . وإساف ونائلة صنمان ، وقد تقدم ذكرهما في كتاب الحج ، وقد روى nindex.php?page=showalam&ids=16406ابن أبي نجيح أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة حجا من الشام ، فقبلها وهما يطوفان فمسخا حجرين ، فلم يزالا في المسجد حتى جاء الإسلام فأخرجا منه .
و (قوله : " فما تناهتا عن قولهما ") ؛ أي : ما رجعتا عنه .
و (قوله : " هن مثل الخشبة ") يعني به الذكر ، وقد تقدم أن " هنا " كناية عن النكرات ، وأراد بذكره هنا سب إساف ونائلة ، وهو تقبيح ، كقوله أولا " أنكحا أحدهما الآخر " .
[ ص: 396 ] و (قوله : " تولولان ") ؛ أي : تدعوان بالويل وترفعان بذلك أصواتهما .
وقولهما : " لو كان أحد من أنفارنا " ؛ أي : من قومنا ، وهو جمع نفر ، والنفر : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وجواب " لو " محذوف ، أي : لنصرنا عليك - ونحوه .
و (قولهما : " الصابئ ") ؛ أي الخارج عن دين قومه ، ويهمز ولا يهمز ، وقد قرئ بهما .
و (قولهما : " قال كلمة تملأ الفم ") ؛ أي عظيمة ، حتى كأن الفم يضيق عنها .
و (قوله : " فكنت أول من حياه بتحية الإسلام ") ؛ يعني به : السلام عليك يا رسول الله ! وظاهره أنه ألهم النطق بتلك الكلمة ، إذ لم يكن سمعها قبل ذلك ، وعلمه بكونه أول من حياه يحتمل أن يكون إلهاما، ويحتمل أن يكون علمه بغير ذلك بالاستقراء ثم أخبر عنه ، والله تعالى أعلم .
و (قوله : " فقدعني صاحبه ") ؛ أي : كفني ومنعني . يقال : قدعت الرجل [ ص: 397 ] وأقدعته - إذا كففته ، ومنه قول الحسن : اقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة - وهو بالدال المهملة .
و (قوله : " إنها طعام طعم ") ؛ أي : يشبع منه ويرد الجوع . الرواية فيه " طعام طعم " بالإضافة ، والطعام : اسم لما يتطعم ، فكأنه قال : طعام إشباع ، أو طعام يشبع - فأضافه إلى صفته ، هذا على معنى ما قاله ابن شميل ، فإنه قال : يقال إن هذا لطعام طعم ، أي : يطعم من أكله ، أي : يشبع منه الإنسان ، وما يطعم أكل هذا الطعام أي ما يشبع منه ، غير أنه قد قال الجوهري : الطعم بالضم الطعام ، وبالفتح ما يشتهى منه . قال : قال أبو خراش :
أرد شجاع البطن لو تعلمينه ويؤثر غيري من عيالك بالطعم وأغتبق الماء القراح فأنتهي إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
قال : فأراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى .
قلت : وعلى هذا فلا تصح الإضافة من جهة المعنى ، فإنه يكون كقولك طعام طعام ، ولا يصح لأنه إضافة الشيء إلى نفسه ، وإنما يستقيم معنى الحديث على ما حكاه ابن شميل ، ويحصل من قولهما أن طعما تستعمل بمعنى الاسم، كما قاله الجوهري وبمعنى الصفة، كما قاله ابن شميل ، والله تعالى أعلم .
وقد روى nindex.php?page=showalam&ids=14724أبو داود الطيالسي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ ص: 398 ] في زمزم : " إنها مباركة ، وهي طعام طعم وشفاء سقم " ؛ أي : طعام من جوع وشفاء من سقم .
و (قوله : " ثم غبرت ما غبرت ") ؛ أي : بقيت ما بقيت ، وقد تقدم أن غبر من الأضداد .
و (قوله : " وقد وجهت إلى أرض ذات نخل ") ؛ أي : ذهب بي إلى تلك الجهة وأريتها .
و (قوله : " لا أراها إلا يثرب ") ، هذا كان اسم المدينة قديما حتى قدمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكره أن تسمى يثرب ، لأنه مأخوذ من التثريب وهو اللوم والتقبيح ، وسماها " طابة " ، وقد تقدم هذا في الحج ، وأيماء بن رحضة يروى بفتح الهمزة وكسرها ، ورحضة بفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة .
[ ص: 399 ] و (قوله : " غفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله " ، إنما دعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهاتين القبيلتين لأنهما أسلمتا طوعا من غير قتال ولا إكراه ، ويحتمل أن يكون ذلك خبرا عما فعل الله بهاتين القبيلتين من المغفرة والمسالمة لهما . وكيف ما كان فقد حصل لهما فخر السابق وأجر اللاحق ، وفيه مراعاة التجنيس في الألفاظ .
و (قوله : " إنهم قد شنفوا له وتجهموا ") ؛ أي : أبغضوه وعبسوا في وجهه ، والشنف : البغض ، ويقال : رجل جهم الوجه إذا كان غليظه منعقده ، كأنه يعبس وجهه لكل أحد .
[ ص: 400 ] و (قوله : " فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه ") ، كذا في رواية nindex.php?page=showalam&ids=12176السجزي وغيره ، وهي واضحة ، أي : لم يزل ينشد شعرا يقتضي المدح حتى حكم له الكاهن بالغلبة على الآخر وأنه أشعر منه ، وكأن هذا الكاهن كان شاعرا فقضى بينهما بذلك ، وفي رواية العذري : " فلم يزل أخي أنيس يمدحه ويثني عليه " مكان : " حتى غلبه " . قال : فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا ، والرواية الأولى أولى؛ لأنها أفادت معنى مناسبا به التأم الكلام بما بعده ، وهو أنه إنما أخذ صرمته لأن الكاهن قضى له بالغلبة ، ولأن قوله " ويثني عليه " مكرر ، لأنه قد فهم ذلك من قوله " يمدحه " ، فحمل الكلام على فائدة جديدة أولى . وإنما ذكر هذا المعنى ليبين أن أخاه أنيسا كان شاعرا مفلقا مجيدا ، بحيث يحكم له بغلبة الشعراء ، ومن [ ص: 401 ] كان هكذا علم أنه عالم بالشعر وأنواعه . فلما كان كذلك وسمع القرآن علم قطعا أنه ليس بشعر ، ولذلك قال : لقد وضعته على أنواع الشعر فلم يلتئم ، فكانت هذه شهادة بأنه ليس بشعر ولا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاعر ، فكان ذلك تكذيبا لمن زعمه من جهال الكفار ومن المعاندين الفجار .
قلت : وقد ظهر بين حديث عبد الله بن الصامت وبين حديث nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس تباعد واختلاف في موضع من حديث nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر هذا بحيث يبعد الجمع بينهما فيه ، وذلك أن في حديث ابن الصامت أن nindex.php?page=showalam&ids=1584أبا ذر لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول ما لقيه ليلا، وهو يطوف بالكعبة ، فأسلم إذ ذاك بعد أن أقام ثلاثين بين يوم وليلة ولا زاد له ، وإنما اغتذى بماء زمزم . وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : إنه كان له قربة وزاد ، وأن nindex.php?page=showalam&ids=8عليا ـ رضي الله عنه ـ أضافه ثلاث ليال ثم أدخله على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته فأسلم ، ثم خرج يصرخ بكلمتي الإسلام . وكل ذلك من السندين صحيح ، فالله أعلم أي [ ص: 402 ] المتنين الواقع ، ويحتمل أن يقال إن nindex.php?page=showalam&ids=1584أبا ذر لما لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حول الكعبة وأسلم لم يعلم به إذ ذاك nindex.php?page=showalam&ids=8علي إذ لم يكن معه ، ثم إن nindex.php?page=showalam&ids=1584أبا ذر بقي مستقرا بحاله إلى أن استتبعه nindex.php?page=showalam&ids=8علي ثم أدخله على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجدد إسلامه ، فظن الراوي أن ذلك أول إسلامه ، وفي هذا الاحتمال بد ، والله أعلم بحقيقة ذلك .
ولم أر من الشارحين لهذا الحديث من ينبه لهذا التعارض ولا لهذا التأويل .