(قوله : " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ") يعني - والله تعالى أعلم - أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا [ ص: 650 ] متفرقا ، فيجمعه الله تعالى في محل الولادة من الرحم في هذه المدة . وقد جاء في بعض الحديث عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود - رضي الله عنه - تفسير : " يجمع في بطن أمه " : أن النطفة إذا وقعت في الرحم ، فأراد الله تعالى أن يخلق منها بشرا ، طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر ، ثم تمكث أربعين ليلة ، ثم تصير دما في الرحم ، فذلك جمعها ، وهذا وقت كونها علقة ، والعلق : الدم .
و (قوله : " ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ") و " ذلك " الأول إشارة إلى المحل الذي اجتمعت فيه النطفة ، وصارت علقة ، و " ذلك " الثاني إشارة إلى الزمان الذي هو الأربعون ، وكذلك القول في قوله : " ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك " والمضغة : قدر ما يمضغه الماضغ من لحم أو غيره .
و (قوله : " ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ") يعني : الملك الموكل بالرحم ، كما قال في حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس - رضي الله عنه - : " إن الله قد وكل بالرحم ملكا " . وظاهر هذا السياق أن الملك عند مجيئه ينفخ الروح في المضغة ، وليس الأمر كذلك ؛ بل إنما ينفخ الروح فيها بعد أن تتشكل تلك المضغة بشكل ابن آدم ، وتتصور بصورته ، كما قال تعالى : فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما [المؤمنون: 14] وكما قال في الآية الأخرى : من مضغة مخلقة وغير مخلقة [الحج: 5].
[ ص: 651 ] فالمخلقة : المصورة ، وغير المخلقة : السقط . قال nindex.php?page=showalam&ids=11873أبو العالية وغيره : وهذا التخليق والتصوير يكون في مدة أربعين يوما ، وحينئذ ينفخ فيه الروح ، وهو المعني بقوله تعالى : ثم أنشأناه خلقا آخر [المؤمنون: 14] في قول الحسن والكبي من المفسرين . قال القاضي : ولم يختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوما ، وذلك تمام أربعة أشهر ، ودخوله في الخامس ، وهذا موجود بالمشاهدة ، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع ، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات ، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف . وقد قيل : إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر . وهذا الدخول في الخامسة يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل . ونفخ الملك في الصورة سبب يخلق الله عنده بها الروح والحياة ، لأن النفخ المتعارف إنما هو إخراج ريح من النافخ يتصل بالمنفوخ فيه ، ولا يلزم منه عقلا ولا عادة في حقنا تأثير في المنفوخ فيه ؛ فإن قدر حدوث شيء عند ذلك النفخ ، فذلك بإحداث الله تعالى لا بالنفخ ، وغاية النفخ : أن يكون معدا عاديا لا موجبا عقليا ، وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة ، فتأمل هذا الأصل وتمسك به ، فبه النجاة من مذاهب أهل الضلال من أهل الطبائع وغيرهم .
و (قوله : " ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد ") ظاهر هذا اللفظ : أن الملك يؤمر بكتب هذه الأربعة ابتداء ، وليس كذلك ، بل إنما يؤمر بذلك بعد أن يسأل عن ذلك فيقول : يا رب ! ما الرزق ؛ ما الأجل ؛ ما العمل ؛ وهل شقي أو سعيد ؛ كما تضمنته الأحاديث الآتية بعد ، بل قد روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، وعن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : " إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه ، وقال : أي رب ، أذكر أم أنثى ؛ شقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ بأي أرض تموت ؛ فيقال له : انطلق إلى أم الكتاب ؛ فإنك تجد قصة هذه النطفة ، فينطلق فيجد [ ص: 652 ] قصتها في أم الكتاب ؛ فتلحق ؛ فتأكل رزقها ، وتطأ أثرها ، فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها " . وزاد في بعض روايات حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : " إن الملك يقول : يا رب ! مخلقة أو غير مخلقة ؛ فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما ، وإن قيل : مخلقة قال : أي رب ! ذكر أم أنثى " . وذكر نحو ما تقدم .
فقوله : " إن النطفة إذا استقرت في الرحم " يعني بهذا الاستقرار : صيرورة النطفة علقة ومضغة ، لأن النطفة قبل ذلك غير مجتمعة كما تقدم ، فإذا اجتمعت وصارت ماء واحدا علقة أو مضغة ، أمكن حينئذ أن تؤخذ بالكف ، وسماها نطفة في حال كونها علقة أو مضغة باسم مبدئها ، والله تعالى أعلم .
ويستفاد من جملة ما ذكرناه أن المرأة إذا ألقت نطفة لم يتعلق بها حكم ، إذ لم تجتمع في الرحم ، فتبين أنها كانت حاملا ، إذ الرحم قد يدفع النطفة قبل استقرارها فيه ، فإذا طرحته علقة تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال ما يتحقق به أنه ولد . وعلى هذا : فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة ، وضع حمل يبرأ به الرحم ، وتنقضي به العدة ، ويثبت لها به حكم أم الولد ، وهذا مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وأصحابه . وقال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : لا اعتبار بإسقاط العلقة ، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط ؛ فإن خفي التخطيط وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج ، وعمدة أصحابنا : التمسك بالحديث المتقدم ، وبأن مسقطة العلقة ، أو المضغة يصدق على المرأة إذا ألقتها أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها ، فشملها قوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [الطلاق: 4] ويصدق عليها قوله صلى الله عليه وسلم لسبيعة الأسلمية : " قد وضعت فانكحي من شئت " ؛ ولأنها وضعت مبدأ [ ص: 653 ] الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط . واستيفاء ما يتعلق به سؤالا وجوابا في الخلاف .
و (قوله : " إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . . . الحديث إلى آخره ") ظاهر هذا الحديث : أن هذا العامل كان عمله صحيحا ؛ وأنه قرب من الجنة بسبب عمله ، حتى أشرف على دخولها ، وإنما منعه من دخولها سابق القدر الذي يظهر عند الخاتمة ، وعلى هذا فالخوف - على التحقيق - إنما هو مما سبق ؛ إذ لا تبديل له ولا تغيير ، فإذا : الأعمال بالسوابق ، لكن لما كانت السوابق مستورة عنا ، والخاتمة ظاهرة لنا ، قال صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=856180إنما الأعمال بالخواتيم " أي : عندنا ، وبالنسبة إلى اطلاعنا في بعض الأشخاص ، وفي بعض الأحوال . وأما العامل المذكور في حديث سهل المتقدم في الإيمان ؛ فإنه لم يكن عمله صحيحا في نفسه ، وإنما كان رياء وسمعة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو [ ص: 654 ] للناس ، وهو من أهل النار " فيستفاد من هذا الحديث : الاجتهاد في إخلاص الأعمال لله تعالى ، والتحرز من الرياء . ويستفاد من حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : ترك العجب بالأعمال ، وترك الالتفات والركون إليها ، والتعويل على كرم الله تعالى ورحمته ، والاعتراف بمنته ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " لن ينجي أحدا منكم عمله . . . الحديث " .