(قوله : " الشقي شقي في بطن أمه ) يعني : أن أول مبدأ الإنسان في بطن أمه يظهر من حاله للملائكة ، أو لمن شاء الله من خلقه ما سبق في علم الله تعالى من سعادته ومن شقوته ، ورزقه وأجله وعمله ؛ إذ قد سبق كتب ذلك في اللوح المحفوظ ، كما دل عليه الكتاب والأخبار الكثيرة الصحيحة ، وكل ذلك قد سبق به العلم الأزلي ، والقضاء الإلهي الذي لا يقبل التغيير ولا التبديل ، المحيط بكل الأمور على التعين والتفصيل . ألا ترى الملائكة كيف تستخرج ما عند الله من علم [ ص: 655 ] حال النطفة ، فتقول : يا رب ما الرزق ؛ ما الأجل ؟ فيقضي ربك ما شاء ، أي : يظهر من قضائه وحكمه للملائكة ما سبق به علمه ، وتعلقت به إرادته .
و (قوله : " ويكتب الملك ") يعني من اللوح المحفوظ ، كما تقدم في حديث يحيى بن أبي زائدة ، ولذلك عطف هذه الجملة على ما تقدم بالواو ، لأنها لا تقتضي رتبة ، ثم يخرج الملك بالصحيفة ، أي : يخرج من حال الغيبة عن هذا العالم إلى حال مشاهدته ، فيطلع الله تعالى بسبب تلك الصحيفة من شاء من الملائكة الموكلين بأحواله على ذلك ليقوم كل بما عليه من وظيفته حسب ما سطر في صحيفته .
و (قوله : " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ، أو ثلاثة وأربعون ، أو خمسة وأربعون ") هذا كله شك من الرواة ، وحاصله : أن بعث الملك المذكور في هذا الحديث ، إنما هو في الأربعين الرابعة التي هي مدة التصوير ، كما دل على ذلك ما قدمناه قبل هذا . وسمى المضغة نطفة بمبدئها ، ألا ترى قوله : " بعث الله إليها [ ص: 656 ] ملكا وصورها وخلق سمعها وبصرها ، وجلدها وعظامها " فعطف بالفاء المرتبة ، وهذا لا يكون حتى تصل النطفة إلى حال نهاية المضغة ، كما دل عليه ما تقدم . وبهذا تتفق الروايات ، ويزول الاضطراب المتوهم فيها ، والله أعلم .
تنبيه : هذا الترتيب العجيب ، وإن خفيت حكمته ، فقد لاحت لنا حقيقته ، وهو أنه كذلك سبق في علمه ، وثبت في قضائه وحكمه ، وإلا فمن الممكن أن يوجد الإنسان وأصناف الحيوان ، بل وجميع المخلوقات ، في أسرع من لحظة ، [ ص: 657 ] وأيسر من النطق بلفظة ، كيف لا؟ وقد سمع السامعون قوله : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [النحل: 40].