لما فرغنا من الكلام على الطرق الدالة على العلة شرعنا في ذكر ما يحتمل أنه من مبطلاتها ، أو مبطلات غيرها من الأدلة ، ويعبر عن ذلك تارة بالاعتراضات وتارة بالقوادح ، و (
القوادح ترجع إلى المنع في المقدمات ، أو المعارضات في الحكم ) قال أهل الجدل : الاعتراضات راجعة إما إلى منع في مقدمة من المقدمات ، أو معارضة في الحكم . فمتى حصل الجواب عنها فقد تم الدليل ، ولم يبق للمعترض مجال ، فيكون ما سوى ذلك من الأسئلة باطلا فلا يسمع . وقال
التاج السبكي في شرح مختصر
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب ، وقطع به في جمع الجوامع : إنها كلها ترجع
[ ص: 539 ] إلى المنع ; لأن الكلام إذا كان مجملا لا يحصل غرض المستدل بتفسيره . فالمطالبة بتفسيره تستلزم منع تحقق الوصف ، ومنع لزوم الحكم عنه . ولم يذكر
الغزالي في المستصفى شيئا من القوادح ، وقال : إن موضع ذكرها علم الجدل . والذاكرون لها يقولون : إنها من مكملات القياس الذي هو من أصول الفقه ، ومكمل الشيء من ذلك الشيء .
وعدة القوادح عند
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب وابن مفلح والأكثر خمسة وعشرون قادحا ، وقيل : اثنا عشر ( ومقدمها ) أي القوادح ( الاستفسار ) أي هو طليعة لها كطليعة الجيش ; لأنه المقدم على كل اعتراض ، وإنما كان مقدما ; لأنه إذا لم يعرف مدلول اللفظ استحال توجه المنع أو المعارضة ، وهما مراد الاعتراضات كلها . وقيل : في كونه منها نظر ; لأن الاعتراضات خدش كلام المستدل . والاستفسار ليس فيه خدش ، بل غايته : أنه استفهام للمراد من الكلام ، لأنه استفعال من " الفسر " وهو لغة طلب الكشف والإظهار ، ومنه التفسير . ولهذا عرفوه بقولهم ( وهو طلب معنى لفظ المستدل لإجماله أو غرابته ) وإنما يسمع ذلك من المعترض إذا كان في اللفظ إجمال أو غرابة ، وإلا فهو تعنت مفوت لفائدة المناظرة ، إذ يأتي في كل لفظ يفسر به لفظ ويتسلسل ( وعلى المعترض بيان احتماله ) أي احتمال اللفظ لمعنيين فأكثر ، حتى يكون مجملا ، كما لو قال المستدل : المطلقة تعتد بالأقراء ، فلفظ " الأقراء " مجمل . فيقول المعترض : ما مرادك بالأقراء ؟ فإذا قال : الحيض أو الأطهار ، أجاب بحسب ذلك من تسليم أو منع ( أو ) بيان ( جهة الغرابة بطريقة ) إما من حيث الوضع ، كقوله : لا يحل السبد ، أي الذئب . وكما لو قال في الكلب الذي لم يعلم : خراش لم يبل ، فلا يطلق فريسته كالسبد . ومعنى " لم يبل " : لم يختبر والفريسة : الصيد ، من فرس الأسد فريسة إذا دق عنقها ، ثم كثر حتى أطلق على كل قتيل فريسة . والسبد الذئب - وهو بكسر السين وسكون الباء الموحدة - والخراش : الكلب - وهو بكسر الخاء ، وقبل الألف راء بعدها شين معجمة - وأما بيان جهة الغرابة من حيث الاصطلاح : كما يقال في القياسات الفقهية : لفظ الدور أو التسلسل أو الهيولى ، أو المادة أو المبدأ أو الغاية ، نحو أن يقال في شهود
[ ص: 540 ] القتل إذا رجعوا : لا يجب القصاص ; لأن وجوب القصاص تجرد مبدؤه عن غاية مقصوده ، فوجب أن لا يثبت ، وكذا ما أشبه ذلك من اصطلاح
المتكلمين .
إلا أن يعرف من حال خصمه أنه يعرف ذلك ، فلا غرابة حينئذ . و ( لا ) يلزم المعترض إذا بين كون اللفظ محتملا ( بيان تساوي الاحتمالات ) لعسره ( ولو قال ) المعترض ( الأصل عدم مرجح : صح ) يعني أنه قال : الأصل عدم رجحان بعض الاحتمالات عن بعض ، كان قوله ذلك صحيحا . ويكون ذلك تبرعا من المعترض ( وجوابه ) أي جواب المستدل عن الاستفسار ، إما ( بمنع احتماله ) أي بمنع إجماله ( أو ) ب ( بيان ظهوره ) أي ظهور اللفظ ( في مقصوده ) أي فيما قصده المستدل ، بأن يقول : هذا ظاهر في مقصودي ، ويبين ذلك ( إما بنقل من اللغة ) كما لو اعترض عليه في قوله : الوضوء قربة ، فتجب له النية ، فيقول المعترض : الوضوء يطلق على النظافة ، وعلى الأفعال المخصوصة . فما الذي تريد بالذي تجب له النية ؟ فيقول : حقيقته الشرعية ، وهي الأفعال المخصوصة ( أو عرف ) يعني أو يبين كون لفظه ظاهرا في مقصوده بالعرف ، كإطلاق الدابة على ذوات الأربع ( أو ) يبين كون اللفظ ظاهرا في مقصوده بما معه من ( قرينة ) نحو قوله : قرء تحرم فيه الصلاة ، فيحرم فيه الصوم ، فإن قرينة تحريم الصلاة فيه تدل على أن المراد به الحيض ، وكذا لو كان اللفظ غريبا ودلت قرينة معه على المراد ، مثل قوله : طلة زوجت نفسها فلا يصح . فالطلة : المرأة ، بقرينة قوله : زوجت نفسها ، لا صفة الخمر ( أو ) ب ( تفسيره ) يعني : أو يكون جواب المعترض بكون اللفظ غريبا : تفسير المستدل للفظه ( إن تعذر ) عليه ( إبطال غرابته ) بأن يقول : مرادي المعنى الفلاني لكن لا بد أن يفسره بما يحتمله اللفظ وإن بعد ، كما يقول : يخرج في الفطرة البر ، ويفسره بالقطعة من الأقط . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب وابن مفلح وتابعهما صاحب التحرير ( ولو قال ) أي المستدل ( يلزم ظهوره ) أي ظهور اللفظ في أحد المعنيين ( دفعا للإجمال ، وفيما قصدته لعدم ظهوره في الآخر ) أي في المعنى الآخر الذي لم أقصده ( اتفاقا ) أي باتفاق مني ومنك ، فيكون ظاهرا في مرادي ( كفى ) ذلك
[ ص: 541 ] بناء على أن المجاز أولى ولا يعتد بتفسير المستدل بشيء لا تحتمله اللغة ; لأن ذلك لعب . لكن هذا كله إذا لم يكن اللفظ الذي يطلب المعترض تفسيره ظاهرا في معناه . فإن كان ظاهرا : فالحزم تبكيت المعترض بأن يقال له : امض فتعلم ثم ارجع فتكلم .