القانون السادس :
في أن
المعنى الذي لا تركيب فيه ألبتة لا يمكن حده إلا بطريق [ ص: 17 ] شرح اللفظ أو بطريق الرسم ، وأما الحد الحقيقي فلا ، والمعنى المفرد مثل الموجود . فإذا قيل لك : ما حد الموجود ؟ فغايتك أن تقول : هو الشيء أو الثابت ، فتكون قد أبدلت اسما باسم مرادف له ربما يتساويان في التفهيم . وربما يكون أحدهما أخفى في موضع اللسان كمن يقول : ما العقار ؟ فيقال : الخمر ، وما الغضنفر ؟ فيقال الأسد .
وهذا أيضا إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر من المذكور في السؤال ثم لا يكون إلا شرحا للفظ ، وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الأسد فلا يتخلص له ذلك في عقله إلا بأن يقول : هو سبع من صفته كيت وكيت ، فأما تكرار الألفاظ المترادفة فلا يغنيه . ولو قلت : حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور ، وقيدته بقيد احترزت به عن المعدوم ، كنت ذكرت شيئا من توابعه ولوازمه وكان حدك رسميا غير معرب عن الذات فلا يكون حقيقيا ، فإذا الموجود لا حد له فإنه مبدأ كل شرح فكيف يشرح في نفسه ؟ إنما قلنا المعنى المفرد ليس له الحد الحقيقي لأن معنى قول القائل ما حد الشيء ، قريب من معنى قوله ما حد هذه الدار ، وللدار جهات متعددة إليها ينتهي الحد فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المختلفة المتعددة التي الدار محصورة مسورة بها .
فإذا قال : ما حد السواد ؟ فكأنه يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد ، فإن السواد لون وموجود وعرض ومرئي ومعلوم ومذكور وواحد وكثير ومشرق وبراق وكدر وغير ذلك من الأوصاف ، وهذه الأوصاف بعضها عارض يزول وبعضها لازم لا يزول ولكن ليست ذاتية ككونه معلوما وواحدا وكثيرا ، وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ، ككونه لونا .
فطالب الحد كأنه يقول : إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد ؟ لتجمع له تلك المعاني المتعددة ، ويتخلص بأن يبتدئ بالأعم ويختم بالأخص ولا يتعرض للعوارض . وربما يطلب أن لا يتعرض للوازم بل للذاتيات خاصة ، فإذا لم يكن المعنى مؤتلفا من ذاتيات متعددة كالموجود فكيف يتصور تحديده ؟ فكان السؤال عنه كقول القائل : ما حد الكرة ؟ ويقدر العالم كله كرة ، فكيف يذكر حده على مثال حدود الدار إذ ليس له حدود ، فإن حده عبارة عن منقطعه ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس سطوحا مختلفة ولا هو منته إلى مختلفة حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا .
فهذا المثال المحسوس وإن كان بعيدا عن المقصود ربما يفهم مقصود هذا الكلام . ولا يفهم من قولي السواد مركب من معنى اللونية والسوادية واللونية جنس والسوادية نوع أن في السواد ذوات متعددة متباينة متفاضلة ، فلا تقل : إن السواد لون وسواد بل لون ذلك اللون بعينه هو سواد ومعناه يتركب ويتعدد للعقل حتى يعقل اللونية مطلقا ولا يخطر له السواد مثلا ثم يعقل السواد فيكون العقل قد عقل أمرا زائدا لا يمكنه جحد تفاصيله في الذهن ولكن لا يمكن أن يعتقد تفاصيله في الوجود ، ولا تظنن أن منكر الحال يقدر على حد شيء ألبتة .
والمتكلمون يسمون اللونية حالا لأن منكر الحال إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه الحد ، وإن زاد شيئا للاحتراز فيقال له : إن الزيادة عين الأول أو غيره ؟ فإن كان عينه فهو تكرار فاطرحه ، وإن كان غيره فقد اعترف بأمرين .
وإن قال في حد الجوهر : إنه موجود بطل بالعرض ، فإن زاد أنه متحيز فيقال له : قولك متحيز مفهومه غير مفهوم الموجود أو عينه ؟ فإن كان عينه فكأنك قلت
[ ص: 18 ] موجود موجود والمترادفة كالمتكررة فهو إذا يبطل بالعرض ، وإن كان غيره حتى اندفع النقض بقولك " متحيز " ولم يندفع بقولك " موجود " فهو غير بالمعنى لا باللفظ ، فوجب الاعتراف بتغاير المعنى في العقل .
والمقصود بيان أن
المفرد لا يمكن أن يكون له حد حقيقي وإنما يحد له بحد لفظي كقولك في حد الموجود : إنه الشيء ، أو رسمي كقولك في حد الموجود : إنه المنقسم إلى الخالق والمخلوق والقادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني أو ما شئت من لوازم الموجود وتوابعه وكل ذلك ليس ينبئ عن ذات الموجود عن تابع لازم لا يفارقه ألبتة . واعلم أن المركب إذا حددته بذكر آحاد الذاتيات توجه السؤال عن حد الآحاد ، فإذا قيل لك : ما حد الشجر ؟ فقلت : نبات قائم على ساق ، فقيل لك : ما حد النبات ؟ فتقول : جسم نام ، فيقال : ما حد الجسم ؟ فتقول : جوهر مؤتلف أو الجوهر الطويل العريض العميق ، فيقال وما حد الجوهر ؟ وهكذا ، فإن كل مؤلف فيه مفردات فله حقيقة وحقيقته أيضا تأتلف من مفردات .
ولا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا تحتاج إلى طلب بصيغة الحد ، كما أن العلوم التصديقية تطلب بالبرهان عليها وكل برهان ينتظم من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضا من برهان يأتلف من مقدمتين وهكذا فيتمادى إلى أن ينتهي إلى أوليات ، فكما أن في العلوم أوليات فكذلك في المعارف ، فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة ، فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل ، فإن طلب الحقيقة فهو معاند كمن يطلب البرهان على أن الاثنين أكثر من الواحد ، فهذا بيان ما أردنا ذكره من القوانين