مقدمة الكتاب
بيان حصر مدارك العلوم النظرية في الحد والبرهان
نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان ، ونذكر شرط الحد الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي وأقسامهما على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر " وكتاب معيار العلم " . وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به ، بل هي مقدمة العلوم كلها ، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا ، فمن شاء أن لا يكتب هذه المقدمة فليبدأ بالكتاب من القطب الأول فإن ذلك هو أول أصول الفقه وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة لحاجة أصول الفقه .
بيان حصر مدارك العلوم النظرية في الحد والبرهان
اعلم أن : إدراك الأمور على ضربين كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحديث والقديم وسائر ما يدل عليه بالأسامي المفردة ، الثاني : إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات ، وهو أن تعلم أولا معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد ومعنى لفظ الحادث ومعنى لفظ القديم وهما أيضا أمران مفردان ، ثم تنسب مفردا إلى مفرد بالنفي أو الإثبات كما تنسب القدم إلى العالم بالنفي فتقول : ليس العالم قديما ، وتنسب الحدوث إليه بالإثبات فتقول : العالم حادث ، والضرب الأخير هو الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب . إدراك الذوات المفردة
وأما الأول فيستحيل فيه التصديق والتكذيب إذ لا يتطرق التصديق ، إلا إلى خبر ، وأقل ما يتركب منه جزءان مفردان وصف وموصوف ، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات ، صدق أو كذب . فأما قول القائل حادث أو جسم أو قديم فأفراد ليس فيها صدق ولا كذب ، ولا بأس أن يصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين فإن حق الأمور المختلفة أن تختلف ألفاظها الدالة عليها ، إذ الألفاظ مثل المعاني فحقها أن تحاذى بها المعاني .
وقد سمى المنطقيون معرفة المفردات تصورا ومعرفة النسبة الخبرية بينهما تصديقا فقالوا : العلم إما تصور وإما تصديق ، وسمى بعض علمائنا الأول معرفة والثاني علما تأسيا بقول النحاة في قولهم المعرفة تتعدى إلى مفعول واحد ، إذ تقول : عرفت زيدا ، والظن يتعدى إلى مفعولين ، إذ تقول : ظننت زيدا عالما ، ولا تقول : ظننت زيدا ، ولا : ظننت عالما ، والعلم من باب الظن ، فتقول : علمت زيدا عدلا .
والعادة في هذه الاصطلاحات مختلفة . وإذا فهمت افتراق الضربين فلا مشاحة في الألقاب ، فنقول الآن : إن [ ص: 11 ] وكل علم تطرق إليه تصديق فمن ضرورته أن يتقدم عليه معرفتان أي : تصوران فإن من لا يعرف المفرد كيف يعلم المركب ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث ، الإدراكات صارت محصورة في المعرفة والعلم أو في التصور والتصديق : أولي ، وهو الذي لا يطلب بالبحث وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب كلفظ الوجود والشيء وككثير من المحسوسات ، ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل ولا مفسر فيطلب تفسيره بالحد ، وكذلك ومعرفة المفردات قسمان . العلم ينقسم إلى أولي كالضروريات ، وإلى مطلوب كالنظريات
والمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد ، والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب لا يقتنص إلا بالبرهان ، فالبرهان والحد هو الآلة التي بها يقتنص سائر العلوم المطلوبة . فلتكن هذه المقدمة المرسومة لبيان مدارك العقول مشتملة على دعامتين دعامة في الحد ودعامة في البرهان .