الباب الأول : في إثبات القياس على منكريه وقد قالت
الشيعة ، وبعض
المعتزلة : يستحيل
التعبد بالقياس عقلا ، وقال قوم في مقابلتهم : يجب التعبد به عقلا ، وقال قوم : لا حكم للعقل فيه بإحالة ، ولا إيجاب ، ولكنه في مظنة الجواز . ثم اختلفوا في وقوعه فأنكر
أهل الظاهر وقوعه بل ادعوا حظر الشرع له .
، والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم ، وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم - رحمهم الله - وقوع التعبد به شرعا ، ففرق المبطلة له ثلاث : المحيل له عقلا ، والموجب له عقلا ، والحاظر له شرعا ، فنفرض على كل فريق مسألة ، ونبطل عليهم خيالهم ، ونقول للمحيل للتعبد به عقلا : بم عرفت إحالته أبضرورة أو نظر ؟ ولا سبيل إلى دعوى شيء من ذلك ، ولهم مسالك .
الأول : قولهم كل ما نصب الله تعالى دليلا قاطعا على معرفته فلا نحيل التعبد به ، إنما نحيل التعبد بما لا سبيل إلى معرفته ; لأن رجم الظن جهل ، ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ، ويحكموا بما لا يتحققون أنه حكم الله ، بل يجوز أنه نقيض حكم الله تعالى . فهذان أصلان :
أحدهما : أن الصلاح واجب على الله تعالى .
والثاني : أنه لا صلاح في التعبد بالقياس ، ففي أيهما النزاع ؟ والجواب : إننا ننازعكم في الأصلين جميعا ، أما إيجاب صلاح العباد على الله تعالى فقد أبطلناه فلا نسلم ، وإن سلمنا فقد جوز التعبد بالقياس بعض من أوجب الصلاح ، وقال : لعل الله تعالى علم لطفا بعباده في الرد إلى القياس لتحمل كلفة الاجتهاد ، وكد القلب ، والعقل في الاستنباط لنيل الخيرات الجزيلة {
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ، وتجشم القلب بالفكر لا يتقاعد عن تجشم البدن بالعبادات .
فإن قيل : كان الشارع قادرا على أن يكفيهم بالتنصيص كلمات الظن ، وذلك ` أصلح قلنا : من أوجب الصلاح لا يوجب الأصلح ، ثم لعل الله تعالى علم من عباده أنه لو نص على جميع التكاليف لبغوا ، وعصوا ، وإذا فوض إلى رأيهم انبعث حرصهم لاتباع اجتهادهم ، وظنونهم . ثم نقول : أليس قد أقحمهم ورطة الجهل في الحكم بقول الشاهدين ، والاستدلال على القبلة ، وتقدير المثل ، والكفايات في النفقات ، والجنايات ؟ وكل ذلك ظن ، وتخمين .
فإن قيل : ما تعبد القاضي بصدق الشاهدين ، فإن ذلك لا يقدر عليه ، بل أوجب الحكم عليه عند ظن الصدق ، وأوجب استقبال جهة يظن أن القبلة فيها لا استقبال القبلة . قلنا : ، وكذلك تعبد المجتهد بأن يحكم بشهادة الأصل للفرع إذا غلب على ظنه دلالته عليه ، وشهادته له ، ولا تكليف عليه في تحقيق تلك الشهادة ، بل هو مكلف بظنه ، وإن فسدت الشهادة ، كما كلف الحاكم الحكم بظنه ، وإن كان كذب الشهود ممكنا ، ولا فرق ، ولذلك نقول كل مجتهد مصيب ، والخطأ محال إذ يستحيل أن يكلف إصابة ما لم ينصب عليه دليل قاطع ، وما أنكروه إنما يشكل على من يقول المصيب واحد .
، وتحقيقه أنه
[ ص: 284 ] لو قال الشارع : حرمت كل مسكر أو حرمت الخمر لكونه مسكرا ، لم يكن التعبد به ممتنعا ; فلو قال : متى حرمت الربا في البر فاسبروا ، وقسموا صفاته ، فإن غلب على ظنكم بأمارة أني حرمته لكونه قوتا ، وحرمت الخمر لكونه مسكرا ، فقد حرمت عليكم كل قوت ، وكل مسكر ، ومن غلب على ظنه أني حرمته لكونه مكيلا فقد حرمت كل مكيل .
لم يكن بين هذا ، وبين قوله : " إذا اشتبهت عليكم القبلة فكل جهة غلب على ظنكم أن القبلة فيها فاستقبلوها " فرق حتى لو غلب جهتان على ظن رجلين ، فيكون كل واحد مصيبا ، وكما لم يمتنع أن يلحق ظن القبلة بمشاهدتها ، وظن صدق العدل بتحقيق صدق الرسول المؤيد بالمعجزة ، وصدق الراوي الواحد بتحقيق صدق التواتر فكذلك لا يمتنع أن يلحق ظن ارتباط الحكم بمناط بتحقق ارتباطه به بالنص الصريح .
فإن قيل : فأي مصلحة في تحريم الربا في البر لكونه مكيلا أو قوتا أو مطعوما ؟ قلنا : ومن أوجب الأصلح لم يشترط كون المصلحة مكشوفة للعباد ، وأي مصلحة في تقدير المغرب ثلاث ركعات ، والصبح بركعتين ، وفي تقدير الحدود ، والكفارات ، ونصب الزكوات بمقادير مختلفة ؟ لكن علم الله تعالى في التعبد لطفا استأثر بعلمه ، يقرب العباد بسببه من الطاعة ، ويبعدون به عن المعصية ، وأسباب الشقاوة . حتى لو أضاف الحكم إلى اسم مجرد ثبت ، واعتقدنا فيه لطفا لا ندركه فكيف لا يتصور ذلك في الأوصاف .
الشبهة الثانية : قولهم : لا يستقيم قياس إلا بعلة ، والعلة ما توجب الحكم لذاتها ، وعلل الشرع ليست كذلك ، فكيف يستقيم التعليل مع أن ما نصب علة للتحريم يجوز أن يكون علة للتحليل ؟ قلنا : لا معنى لعلة الحكم إلا علامة منصوبة على الحكم ، ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر ، ويقول : اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر ، ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا ، ويجوز أن يقول : من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر ، ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر ، حتى يختلف المجتهدون في هذه الظنون ، وكلهم مصيبون .
الشبهة الثالثة : قوله حكم الله تعالى خبره ، ويعرف ذلك بتوقيف ، فإذا لم يخبر الله عن حكم الزبيب ، فكيف يقال حكم الله في الزبيب التحريم ، والنص لم ينطق إلا بالأشياء الستة ؟ قلنا : إذا قال الله تعالى : قد تعبدتكم بالقياس فإذا ظننتم أني حرمت الربا في البر لكونه مطعوما ، فقيسوا عليه كل مطعوم ، فيكون هذا خبرا عن حكم الزبيب .
وما لم يقم دليل على التعبد بالقياس لا يجوز القياس عندنا ، فالقياس عندنا حكم بالتوقيف المحض كما قررناه في كتاب أساس القياس لكن هذا النص بعينه ، وإن لم يرد فقد دل إجماع الصحابة على القياس على أنهم ما فعلوا ذلك إلا ، وقد فهموا من الشارع هذا المعنى بألفاظ ، وقرائن ، وإن لم ينقلوها إلينا . الشبهة الرابعة : قولهم :
إذا اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات ، أو ميتة بعشر مذكيات ، لم يجز مد اليد إلى واحدة ، وإن وجدت علامات لإمكان الخطأ ، والخطأ ممكن في كل اجتهاد ، وقياس ، فكيف يجوز الهجوم مع إمكان الخطأ ؟ ولا يلزم هذا على الاجتهاد في القبلة ، وعدالة الشاهد ، والقاضي ، والإمام ، ومتولي الأوقاف لمعنيين :
أحدهما : أن ذلك حكم في الأشخاص ، والأعيان ، ولا نهاية لها ، ولا يمكن تعريفها بالنص .
والثاني : أن الخطأ فيه غير ممكن ; ; لأنهم متعبدون بظنونهم لا بصدق الشهود .
قلنا : وكذلك
[ ص: 285 ] نحن نعترف بأنه لا خلاص عن هذا الإشكال إلا بتصويب كل مجتهد ، وأن المجتهد ، وإن خالف النص فهو مصيب ، إذ لم يكلف إلا بما بلغه ، فالخطأ غير ممكن في حقه . أما من ذهب إلى أن المصيب واحد ، فيلزمه هذا الإشكال .
وأما اختلاط الرضيعة بأجنبيات فلسنا نسلم أن المانع مجرد إمكان الخطأ ، فإنه لو شك في رضاع امرأة حل له نكاحها ، والخطأ ممكن ، لكن الشرع إنما أباح نكاح امرأة يعلم أنها أجنبية بيقين ، وحكم أن اليقين لا يندفع بالشك الطارئ ، أما
إذا تعارض يقينان ، وهو يقين التحريم ، والتحليل فليس ذلك في معنى اليقين الصافي عن المعارضة ، ولا في معنى اليقين الذي لم يعارضه إلا الشك المجرد ، فلم يلحق به اتباعا لموجب الدليل ، ولو ورد الشرع بالرخصة فيه لم يكن ذلك ممتنعا .