مسألة الرد على من حسم سبيل الاجتهاد بالظن
ولم يجوز الحكم في الشرع إلا بدليل قاطع ، كالنص ، وما يجري مجراه . فأما الحكم بالرأي ، والاجتهاد فمنعوه ، وزعموا أنه لا دليل عليه ، وإنما الرد عليهم بإظهار الدليل ، وما عندي أن أحدا ينازع في الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم ، فلا تصرف الزكاة إلا إلى فقير ، ويعلم فقره بأمارة ظنية ، ولا يحكم إلا بقول عدل ، وتعرف عدالته بالظن ، وكذلك الاجتهاد في الوقت ، والقبلة ، وأروش الجنايات ، وكفاية القريب .
وإن اعتذروا عن جميع ذلك بأن كل عبد مأمور باتباع ظنه في ذلك ، وظنه موجود قطعا ، والحكم عند الظن واجب قطعا ، فنحن كذلك نقول في سائر الاجتهادات ، وإن اعتذروا عن ذلك بأن ذلك ضرورة ، فإنما نزاعنا في معرفة مناط الأحكام بالرأي ، والاجتهاد ، فيستدل على ذلك بإجماع الصحابة على الحكم بالرأي ، والاجتهاد في كل واقعة وقعت لهم ، ولم يجدوا فيها نصا ، وهذا مما تواتر إلينا عنهم تواترا لا شك فيه ، فننقل من ذلك بعضه ، وإن لم يمكن نقل الجميع .
فمن ذلك حكم الصحابة بإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالاجتهاد مع انتفاء النص ، ونعلم قطعا بطلان دعوى النص عليه ، وعلى ، وعلى علي ، إذ لو كان لنقل ، ولتمسك به المنصوص عليه ، ولم يبق للمشورة مجال حتى ألقى العباس رضي الله عنه الشورى بين ستة ، وفيهم عمر رضي الله عنه ، فلو كان منصوصا عليه ، وقد استصلحه له ، فلم تردد بينه ، وبين غيره ؟ ومن ذلك قياسهم العهد على العقد ، إذ ورد في الأخبار عقد الإمامة بالبيعة ، ولم ينص على واحد علي عهد إلى ، وأبو بكر خاصة ، ولم يرد فيه نص ، ولكن قاسوا تعيين الإمام على تعيين الأمة لعقد البيعة فكتب عمر : " هذا ما عهد أبو بكر " ، ولم يعترض عليه أحد . أبو بكر
، ومن ذلك رجوعهم إلى اجتهاد ورأيه في قتال مانعي الزكاة حتى قال أبي بكر : فكيف تقاتلهم ، وقد قال عليه السلام { عمر } ؟ فقال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم ، وأموالهم إلا بحقها : " ألم يقل { أبو بكر } فمن حقها إيتاء الزكاة كما أن من حقها إقام الصلاة ، فلا أفرق بين ما جمع الله . إلا بحقها ؟
والله لو منعوني عقالا مما أعطوا النبي عليه السلام لقاتلتهم عليه " ، وبنو حنيفة الممتنعون من الزكاة جاءوا إلى رضي الله عنه متمسكين بدليل أصحاب الظاهر في اتباع النص ، وقالوا : إنما أمر النبي عليه السلام بأخذ الصدقات ; لأن صلاته كانت سكنا لنا ، وصلاتك ليست بسكن لنا ، إذ قال الله تعالى : { أبي بكر خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ، وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } .
فأوجبوا تخصيص الحكم بمحل النص ، وقاس ، والصحابة خليفة الرسول على الرسول ، إذ الرسول إنما كان يأخذ للفقراء لا لحق نفسه ، والخليفة نائب في استيفاء الحقوق ، ومن ذلك ما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد بعد طول التوقف فيه ، ككتب المصحف ، وجمع القرآن بين الدفتين ، فاقترح أبو بكر ذلك أولا على عمر فقال : كيف أفعل ما لم يفعله النبي عليه السلام ؟ حتى شرح الله له صدر أبي بكر ، وكذلك جمعه أبي بكر على ترتيب واحد بعد أن كثرت المصاحف مختلفة الترتيب ، ومن ذلك إجماعهم على الاجتهاد في مسألة الجد ، والإخوة على وجوه مختلفة مع قطعهم بأنه لا نص في المسائل التي قد أجمعوا على الاجتهاد فيها . [ ص: 287 ] عثمان