النمط الثالث : نمط التعاند . وهو على ضد ما قبله ، والمتكلمون يسمونه
" السبر والتقسيم " ، والمنطقيون يسمونه " الشرطي المنفصل " ويسمون ما قبله " الشرطي المتصل " . وهو أيضا يرجع إلى مقدمتين ونتيجة ، ومثاله : العالم إما قديم وإما حادث . وهذه مقدمة وهي قضيتان ، الثانية أن تسلم إحدى القضيتين أو نقيضها فيلزم منه لا محالة نتيجة وينتج فيه أربع تسليمات ، فإنا نقول : لكنه حادث فليس بقديم ، لكنه قديم فليس بحادث ، لكنه ليس بحادث فهو قديم ، لكنه ليس بقديم فهو حادث .
وبالجملة كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفي أحدهما إثبات الآخر . ولا يشترط أن تنحصر القضية في قسمين بل شرطه أن تستوفي أقسامه ، فإن كانت ثلاثة فإنا نقول : العدد إما مساو أو أقل أو أكثر ، فهذه ثلاثة لكنها حاصرة فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث وإثبات واحد ينتج انحصارا لحق في الآخرين في أحدهما لا بعينه .
والذي لا ينتج فيه انتقاء واحد هو أن لا يكون محصورا ، كقولك زيد إما
بالعراق وإما
بالحجاز ، فهذا مما يوجب إثبات واحد ونفي الآخر ، أما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر إذ ربما يكون في صقع آخر . وقول من أثبت رؤية الله بعلة الوجود يكاد لا ينحصر كلامه إلا أن نتكلف له وجها ، فإن قول مصحح الرؤية لا يخلو إما أن يكون كونه جوهرا فيبطل بالعرض أو كونه عرضا فيبطل بالجوهر أو كونه سوادا أو لونا فيبطل بالحركة ، فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود ، وهذا غير حاصر إذ يمكن أن يكون قد بقي أمر آخر مشترك سوي الوجود لم يعثر عليه الباحث مثل كونه بجهة من الرائي مثلا ، فإن أبطل
[ ص: 35 ] هذا فلعله لمعنى آخر إلا أن يتكلف حصر المعاني وينفي جميعها سوى الوجود ، فعند ذلك ينتج .
فهذه أشكال البراهين ، فكل دليل لا يمكن رده إلى واحد من هذه الأنواع الخمسة فهو غير منتج ألبتة ولهذا شرح أطول من هذا ذكرناه في كتاب " محك النظر " وكتاب " معيار العلم " .