مسألة : في نقض الاجتهاد .
المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد أن خالع الزوج ثلاثا ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم ، فإنه لو نقض الاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل فاضطربت الأحكام ولم يوثق بها .
أما إذا نكح المقلد بفتوى مفت وأمسك زوجته بعد دور الطلاق وقد نجز الطلاق بعد الدور ثم تغير اجتهاد المفتي فهل على المقلد تسريح زوجته ؟ هذا ربما يتردد فيه ، والصحيح أنه يجب تسريحها كما لو تغير اجتهاد مقلده عن القبلة في أثناء الصلاة فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى كما لو تغير اجتهاده في نفسه ، وإنما حكم الحاكم هو الذي ينقض ولكن بشرط أن لا يخالف نصا ولا دليلا قاطعا فإن أخطأ النص نقضنا حكمه ، وكذلك إذا تنبهنا لأمر معقول في تحقيق مناط الحكم أو تنقيحه بحيث يعلم أنه لو تنبه له لعلم قطعا بطلان حكمه فينقض الحكم .
فإن قيل : قد ذكرتم أن مخالف النص مصيب إذا لم يقصر ; لأن ذلك حكم الله تعالى عليه بحسب حاله فلم ينقض حكمه . قلنا : نعم ، هو مصيب بشرط دوام الجهل ، كمن ظن أنه متطهر فحكم الله عليه وجوب الصلاة ولو علم أنه محدث فحكم الله عليه تحريم الصلاة مع الحدث ، لكن عند الجهل الصلاة واجبة عليه وجوبا حاصلا ناجزا وهي حرام عليه بالقوة أي هي بصدد أن تصير حراما لو علم أنه محدث ، فمهما علم لزمه تدارك ما مضى وكان ذلك صلاة بشرط دوام الجهل وكذلك مهما بلغ المجتهد النص نقض حكمه الواقع ، فكذلك الحاكم الآخر العالم بالنص ينقض حكمه .
وعند هذا ننبه على دقيقة ، وهي أنا ذكرنا أن اختلاف حال المكلف في الظن والعلم كاختلاف حاله في السفر والإقامة والطهر والحيض فيجوز أن يكون ذلك سببا لاختلاف الحكم ، لكن بينهما فرق وهو أن من سقط عنه وجوب لسفره أو عجزه فلا يجب إزالة سفره وعجزه ليتحقق الوجوب ، ومن سقط عنه لجهله وجب إزالة جهله فإن التعليم وتبليغ حكم الشرع وتعريف أسبابه واجب
وكذلك نقول : من صلى وعلى ثوبه نجاسة لا يعرفها تصح صلاته ولا يقضيها على قول ، فمن رأى في ثوبه تلك النجاسة يلزمه تعريفه ولو
[ ص: 368 ] تيمم ليصلي وقدر غيره على أن يزيل عجزه بحمل ماء إليه لم يلزمه ، ففي هذه الدقيقة يختلف حكم العلم والجهل وحكم سائر الأوصاف .
فإن قيل : فلو خالف الحاكم قياسا جليا هل ينقض حكمه ؟ قلنا : قال الفقهاء : ينقض . فإن أرادوا به ما هو في معنى الأصل مما يقطع به فهو صحيح ، وإن أرادوا به قياسا مظنونا مع كونه جليا فلا وجه له ، إذ لا فرق بين ظن وظن ، فإذا انتفى القاطع فالظن يختلف بالإضافة وما يختلف بالإضافة فلا سبيل إلى تتبعه فإن قيل : فمن حكم على خلاف خبر الواحد أو بمجرد صيغة الأمر أو حكم في الفساد بمجرد النهي فهل ينقض حكمه وقد قطعتم بصحة خبر الواحد وأن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب والنهي لا يدل بمجرده على الفساد ؟
قلنا مهما كانت المسألة ظنية فلا ينقض الحكم ; لأنا لا ندري أنه حكم لرده خبر الواحد أو أنه حكم بمجرد صيغة الأمر ، بل لعله كان حكم الدليل آخر ظهر له ، فإن علمنا أنه حكم لذلك لا لغيره وكانت المسألة مع ذلك ظنية اجتهادية ، فلا ينبغي أن ينقض ; لأنه ليس لله في المسألة الظنية حكم معين فقد حكم بما هو حكم الله تعالى على بعض المجتهدين ، فإن أخطأ الطريق فليس مخطئا في نفس الحكم بل حكم في محل الاجتهاد .
وعلى الجملة الحكم في مسألة فيها خبر واحد على خلاف الخبر ليس حكما برد الخبر مطلقا وإنما المقطوع به كون الخبر حجة على الجملة ، أما آحاد المسائل فلا يقطع فيها بحكم .
فإن قيل : فإن حكم بخلاف اجتهاده لكن وافق مجتهدا آخر وقلده فهل ينقض حكمه ؟ ولو حكم حاكم مقلد بخلاف مذهب إمامه فهل ينقض ؟ قلنا : هذا في حق المجتهد لا يعرف يقينا بل يحتمل تغير اجتهاده ، وأما المقلد فلا يصح حكمه عند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، ونحن وإن حكمنا بتنفيذ حكم المقلدين في زماننا لضرورة الوقت فإن قضينا بأنه لا يجوز للمقلد أن يتبع أي مفت شاء بل عليه اتباع إمامه الذي هو أحق بالصواب في ظنه فينبغي أن ينقض حكمه ، ولو جوزنا ذلك ; فإذا وافق مذهب ذي مذهب فقد وقع الحكم في محل الاجتهاد فلا ينقض .
وهذه مسائل فقهية أعني نقض الحكم في هذه الصور وليست من الأصول في شيء ، والله أعلم