الفن الرابع من القطب الأول فيما يظهر الحكم به وهو الذي يسمى سببا وكيفية نسبة الحكم إليه وفيه أربعة فصول :
الفصل الأول في الأسباب
اعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الله - تعالى - في كل حال لا سيما بعد انقطاع الوحي ، أظهر الله - سبحانه - خطابه لخلقه بأمور محسوسة نصبها أسبابا لأحكامه وجعلها موجبة ومقتضية للأحكام على مثال اقتضاء العلة الحسية معلولها ، ونعني بالأسباب ههنا أنها هي التي أضاف الأحكام إليها ، كقوله - تعالى - : {
أقم الصلاة لدلوك الشمس } وقوله تعالى : {
فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وقوله صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=21241صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } .
وهذا ظاهر فيما يتكرر من العبادات كالصلاة والصوم والزكاة ، فإن ما يتكرر الوجوب بتكرره فجدير بأن يسمى سببا ; أما ما لا يتكرر كالإسلام والحج فيمكن أن يقال : ذلك معلوم بقوله - تعالى - : {
ولله على الناس حج البيت } وكذا وجوب المعرفة على كل مكلف يعلم
[ ص: 75 ] بالعمومات ، فلا حاجة إلى إضافتها إلى سبب .
ويمكن أن يقال سبب وجوب الإيمان والمعرفة الأدلة المنصوبة ، وسبب وجوب الحج
البيت دون الاستطاعة ; ولما كان
البيت واحدا لم يجب الحج إلا مرة واحدة ، والإيمان معرفة فإذا حصلت دامت والأمر فيه قريب . هذا قسم العبادات ، وأما قسم الغرامات والكفارات والعقوبات فلا تخفى أسبابها .
وأما قسم المعاملات فلحل الأموال والأبضاع ، وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره ، وهذا ظاهر وإنما المقصود أن نصب الأسباب أسبابا للأحكام أيضا حكم من الشرع ، فلله تعالى في الزاني حكمان أحدهما : وجوب الحد عليه ، والثاني : نصب الزنا سببا للوجوب في حقه ; لأن الزنا لا يوجب الرجم لذاته وعينه بخلاف العلل العقلية ، وإنما صار موجبا بجعل الشرع إياه موجبا ، فهو نوع من الحكم فلذلك أوردناه في هذا القطب ولذلك يجوز تعليله ونقول : نصب الزنا علة للرجم والسرقة علة للقطع لكذا وكذا ، فاللواط في معناه فينتصب أيضا سببا ، والنباش في معنى السارق ; وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب القياس .
واعلم أن اسم السبب مشترك في اصطلاح الفقهاء ، وأصل اشتقاقه من الطريق ومن الحبل الذي به ينزح الماء من البئر ، وحده ما يحصل الشيء عنده لا به ، فإن الوصول بالسير لا بالطريق ولكن لا بد من الطريق ، ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل ولكن لا بد من الحبل ، فاستعار الفقهاء لفظ السبب من هذا الموضع وأطلقوه على أربعة أوجه : الوجه الأول : وهو أقربها إلى المستعار منه : ما يطلق في مقابلة المباشرة ، إذ يقال : إن حافر البئر مع المردي فيه صاحب سبب ، والمردي صاحب علة ، فإن الهلاك بالتردية لكن عند وجود البئر فما يحصل الهلاك عنده لا به يسمى سببا .
الثاني : تسميتهم الرمي سببا للقتل من حيث إنه سبب للعلة ، وهو على التحقيق علة العلة لكن لما حصل الموت لا بالرمي بل بالواسطة أشبه ما لا يحصل الحكم إلا به . الثالث : تسميتهم ذات العلة مع تخلف وصفها سببا ، كقولهم : الكفارة تجب باليمين دون الحنث ، فاليمين هو السبب . وملك النصاب هو سبب الزكاة دون الحول مع أنه لا بد منهما في الوجوب . ويريدون بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه ، ويقابلون هذا بالمحل والشرط فيقولون ملك النصاب سبب والحول شرط .
الرابع : تسميتهم الموجب سببا فيكون السبب بمعنى العلة ، وهذا أبعد الوجوه عن وضع اللسان ، فإن السبب في الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به ; ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية ; لأنها لا توجب الحكم لذاتها بل بإيجاب الله - تعالى - ، ولنصبه هذه
الأسباب علامات لإظهار الحكم ، فالعلل الشرعية في معنى العلامات المظهرة فشابهت ما يحصل الحكم عنده .