الفصل الثاني من هذا الباب : في إثباته على منكريه
إثباته على منكريه .
والمنكر إما جوازه عقلا أو وقوعه سمعا ، أما جوازه عقلا فيدل عليه أنه لو امتنع لكان إما ممتنعا لذاته وصورته أو لما يتولد عنه من مفسدة أو أداء إلى محال . ولا يمتنع لاستحالة ذاته وصورته بدليل ما حققناه من معنى الرفع ودفعناه من الإشكالات عنه .
ولا يمتنع لأدائه إلى مفسدة وقبح ، فإنا أبطلنا هذه القاعدة وإن سامحنا بها ، فلا بعد في أن يعلم الله تعالى مصلحة عباده في أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له ويمتنعوا بسبب العزم عن معاص وشهوات ثم يخفف عنهم . وأما وقوعه سمعا فيدل عليه الإجماع والنص ، أما الإجماع فاتفاق الأمة قاطبة على أن
شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شرع من قبله إما بالكلية وإما فيما يخالفها فيه ، وهذا متفق عليه فمنكر هذا خارق للإجماع .
وقد ذهب شذوذ من المسلمين إلى إنكار النسخ وهم مسبوقون بهذا الإجماع فهذا الإجماع حجة عليهم وإن لم يكن حجة على
اليهود . وأما النص فقوله تعالى : {
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر } الآية . والتبديل يشتمل على رفع وإثبات ، والمرفوع إما تلاوة وإما حكم ، وكيفما كان فهو رفع ونسخ .
فإن قيل : ليس المعني به رفع المنزل ، فإن ما أنزل لا يمكن رفعه وتبديله ، لكن المعني به تبديل مكان الآية بإنزال آية بدل ما لم ينزل ، فيكون ما لم ينزل كالمبدل بما أنزل ، قلنا : هذا تعسف بارد ، فإن الذي لم ينزل كيف يكون مبدلا والبدل يستدعي مبدلا ؟ وكيف يطلق اسم التبديل على ابتداء الإنزال ؟ فهذا هوس وسخف . والدليل الثاني : قوله تعالى : {
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } ولا معنى للنسخ
[ ص: 90 ] إلا تحريم ما أحل ، وكذلك قوله تعالى : {
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } .
فإن قيل لعله أراد به التخصيص . قلنا : قد فرقنا بين التخصيص والنسخ فلا سبيل إلى تغيير اللفظ ، كيف والتخصيص لا يستدعي بدلا مثله أو خيرا منه وإنما هو بيان معنى الكلام ؟ الدليل الثالث : ما اشتهر في الشرع من
نسخ تربص الوفاة حولا بأربعة أشهر وعشر ،
ونسخ فرض تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى : {
فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } ومنه
نسخ تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بقوله تعالى : {
فول وجهك شطر المسجد الحرام } وعلى الجملة اتفقت الأمة على إطلاق لفظ النسخ في الشرع .
فإن قيل : معناه نسخ ما في اللوح المحفوظ إلى صحف الرسل والأنبياء وهو بمعنى نسخ الكتاب ونقله . قلنا : فإذا شرعنا منسوخ كشرع من قبلنا ، وهذا اللفظ كفر بالاتفاق ، كيف وقد نقلنا من قبلة إلى قبلة ومن عدة إلى عدة ؟ فهو تغيير وتبديل ورفع قطعا .