السادس القول بالموجب ( بفتح الجيم ) ، أي :
القول بما أوجبه دليل المستدل . أي الموجب
[ ص: 373 ] بكسرها ) فهو الدليل المقتضي للحكم ، وهو تسليم مقتضى ما نصبه المستدل موجبا لعلته ، مع بقاء الخلاف بينهما فيه . وذلك بأن يظن المعلل أن ما أتى به مستلزم لمطلوبه من حكم المسألة المتنازع فيها ، مع كونه غير مستلزم ، فلا ينقطع النزاع بتسليمه ، وهذا أولى من تعريف
الإمام الرازي له بموجب العلة ، لأنه لا يختص بالقياس ، أي : أن يكون دليله لا يشعر بحكم المسألة المتنازع فيها . وهذا فيه إشكال ، لأن الاستدلال على غير محل النزاع لا يعتد به ، والاستدلال على محل النزاع لا يمكن القول بموجبه .
وأجيب بأن المستدل قد يتخيل من الخصم مانعا لحكم المسألة بحيث لو بطل ذلك المانع تقرر أن الخصم يسلم له الحكم ، فيجعل المستدل عمدته في الاستدلال لإبطال ما تخيله ظنا منه أنه إذا بطل كونه مانعا سلم الحكم ، فكأنه قد استدل على غير الحكم المسئول ، أو استدل على أن الأمر المذكور غير مانع من الحكم ، وإذا لم يكن مانعا لزم الحكم .
وقال
ابن المنير : حدوه بتسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع فيه وهو غير مستقيم ، لأنه يدخل فيه ما ليس منه ، وهو بيان غلط المستدل على إيجاب النية في الوضوء بقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=25001في أربعين شاة شاة } فقال المعترض : أقول بموجب هذا الدليل ، لكنه لا يتناول محل النزاع فهذا ينطبق عليه الحد وليس
[ ص: 374 ] قولا بالموجب ، لأن شرطه أن يظهر عذر للمستدل في الغلط ، فتمام الحد أن يقال : هو تسليم نقيض الدليل مع بقاء النزاع حيث يكون للمستدل عذر معتبر . انتهى .
وكان
الشيخ محيي الدين القرميسي من أئمة الأصول والجدل
بالإسكندرية يذهب إلى أنه تقرير التسليم وليس بتسليم حقيقة . وحقيقته بيان انحراف الدليل عن محل النزاع ، وعلى هذا فلا يلزم منه الانقطاع ، بل إن ثبت انحراف الدليل فقد انقطع المستدل ، وإن ثبت أنه غير منحرف لم ينقطع المعترض ، بل ينزل على أنه في مسألة النزاع ويورد عليه ما يليق به وينبني على هذا الخلاف فرعان :
( أحدهما ) : أنه
هل يجب تأخير القول بالموجب عن بقية الأسئلة ؟
( الثاني ) : أنه حيث لزم فهل هو انقطاع ؟ فإن قلنا بالأول فإذا سلم المعترض ذلك حقيقة وتبين أنه محل النزاع فقد سلم المسألة وكان منقطعا . وإن قلنا بالثاني : إنه عبارة عن انحراف الدليل عن محل النزاع وأنه بين ذلك بأن سلم مدلول الدليل تقديرا لا تحقيقا مع بقاء النزاع ، فعلى هذا إن لزم ذلك فقد انقطع المستدل ، وإن لم يلزمه لم يحكم بانقطاع المعترض . بل له أن يورد بعد ذلك ما شاء من الأسئلة . وهذا هو الذي كان يختاره
القرميسي
ومن أعذاره : أن يبني المستدل على أن الخصم يوافق على المقتضي ، وإنما يمنعه من
[ ص: 375 ] العمل ثم تخيل ما ليس بمانع مانعا ، فيعمد المستدل إلى ذلك المانع فيبطله ليسلم المقتضي فيلزم الخصم الموافقة . هذا ظن المستدل ، ويكون المعترض مثلا لا يوافقه على المقتضي ، أو يوافقه ولكن المانع عنده أجنبي عما يخيل المستدل ، أنه المانع عنده ، أو غير أجنبي ولكنه جزء المانع ، فلا يلزم من سلب الماهية عن الجزء سلب الماهية عن الكل ، أو مانع مستقل ولكن يجوز أن يكون هناك مانع آخر . وإذا جاز تعدد العلل جاز تعدد الموانع . ومنها : أن يذكر المستدل إحدى المقدمتين ويسكت عن الأخرى ظنا أنها مسلمة ، فيقول الخصم بموجب المقدمة المذكورة ، ويبقى على المنع ، لأنه يتجه على منع السكوت عنها .
ومنها : أن يعتقد تلازما بين محل النزاع وبين محل آخر ، فينصب الدليل على ذلك المحل بناء منه على أنه ما ثبت الحكم في ذلك المحل لزم أن يثبت في محل النزاع ، فيقول المعترض بالموجب ويمنع الملازمة . انتهى .
والقول بالموجب من أحسن ما يجيء به المناظر ، ومنه قوله تعالى : {
ولله العزة ولرسوله } . . . في جواب {
ليخرجن الأعز منها الأذل } فإنهم كنوا بالأعز عن فريقهم وبالأذل عن فريق المؤمنين ، وأثبتوا للأعز الإخراج ، فأثبت الله تعالى في الرد عليهم صنف العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، أي : فإذا كان الأعز يخرج الأذل فأنتم المخرجون ( بفتح الراء ) وهو من أحسن وجوه الاعتراضات ، وأكثر الاعتراضات الواردة على النصوص ترجع إليه ، لأن النص إذا ثبت فلا يمكن رده ، فلا يرد عليه سؤال إلا وحاصله يرجع إلى تسليم النص ومنع لزوم الحكم منه .
والفرق بينه وبين المعارضة أن حاصله يرجع إلى حيد الدليل الصحيح عن محل النزاع ، والمعارضة فيها اعتراف بمساس الدليل لمحل النزاع . قال
[ ص: 376 ] إلكيا : وإنما يتصور القول بالموجب إذا لم يأت المعلل بما يؤثر في نفس الحكم المتنازع فيه ، بل يعترض لإبطال ما ظنه موجبا ومؤثرا عند الخصم والمؤثر غيره ، ولو صرح بنفس الحكم فلا يتصور توجه القول بالموجب .
وقال
ابن السمعاني ، تبعا
للإمام : هو سؤال صحيح إذا خرج مخرج الممانعة ، ولا بد في توجهه من شرط ، وهو أن يسند الحكم الذي تنصب له العلة إلى شيء ، مثل قول الحنفي في ماء الزعفران : ماء خالطه طاهر ، والمخالطة لا تمنع صحة الوضوء ، فيقول السائل : المخالط لا يمنع الماء ، مع أنه ليس بماء مطلق .
وشرط في " المنخول " لصحته أن يبقى الخلاف معه في محل النزاع ، ( قال ) : ولا ينافي القول بالموجب مع التصريح بالحكم الذي أثبت النزاع فإنه يرتفع الخلاف . وإنما يتوجه إذا أجمل الحكم ، وقال : إن كان كذا فجاز أن يكون كذا ، فيقول بموجبه في بعض الصور ، أو يتعرض لنفي علة الخصم .
وما ذكرناه من جعله من قوادح العلة صرح به
إلكيا والإمام الرازي والآمدي وغيرهم ، ووجهه أنه إذا قال بموجبها كانت العلة في موضع الإجماع ، ولا تكون متناولة لموضع الخلاف ، ولأنه إذا كان تسليم موجب ما ذكره من الدليل لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم الذي قصد إثباته .
وظاهر كلام ، الجدليين أنه ليس من قوادح العلة ، لأن القول بموجب الدليل تسليم ، فكيف يكون مفسدا ؟ وحكى في " المنخول " أن القول بالموجب لا يسمى اعتراضا ; لأنه مطابقة للعلة ، والخلاف لفظي .
[ ص: 377 ] وقد عده
إمام الحرمين في " البرهان " من الاعتراضات الصحيحة ، ثم قال : ثم الأصوليون تارة يقولون : القول بالموجب ليس اعتراضا ، وهو لعمري كذلك ، فإنه لا يبطل العلة ، لأنه إذا جرت العلة وحكمها مختلف فيه فلأن تجري وحكمها متفق عليه أولى قال
المقترح في تعليله : إن أرادوا بقولهم : لا يبطل العلة مطلقا فمسلم ، فإنها لا تبطل في جميع مجاريها ، وإن أرادوا لا تبطل في محل النزاع فغير صحيح ، فإنه يلزم من القول بالموجب إبطال العلة في محل النزاع ، وهذا هو الذي تصدى المعترض له ، وهو إبطال علة المستدل في المحل المتنازع فيه ، فلم يصح قولهم : إنه ليس مبطلا للعلة إلا على تقدير إرادة أنه لا يبطلها في جميع مجاريها .
وقال
الخوارزمي في " النهاية " : إذا توجه القول بالموجب انقطع أحد الخصمين : إن بقي النزاع انقطع المستدل ، وإن لم يبق النزاع انقطع السائل ( انتهى )