[ ص: 92 ] فصل في
مراتب البيان للأحكام
وقد ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في أول " الرسالة " ، ورتبها خمسة أقسام ، بعضها أوضح بيانا من بعض .
فأولها : بيان التأكيد ، وهو النص الجلي الذي لا يتطرق إليه تأويل ، كقوله في صوم التمتع : {
فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } وسماه بعضهم بيان التقرير . وحاصله أنه في الحقيقة التي تحتمل المجاز والعام المخصوص فيكون البيان قاطعا للاحتمال ، مقررا للحكم على ما اقتضاه الظاهر .
ثانيها : النص الذي ينفرد بدركه العلماء " كالواو ، وإلى " في آية الوضوء ، فإن هذين الحرفين يقتضيان معاني معلومة عند أهل اللسان .
ثالثها : نصوص السنة الواردة بيانا لمشكل في القرآن ، كالنص على ما يخرج زمن الحصاد مع تقدم قوله : {
وآتوا حقه يوم حصاده } ولم يذكر في القرآن مقدار هذا الحق .
ورابعها : نصوص السنة المبتدأة مما ليس في القرآن نص عليها بالإجمال ، ولا بالتفسير ودليل كون هذا القسم من بيان الكتاب قوله تعالى : {
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } .
خامسها : بيان الإشارة ، وهو القياس المستنبط من الكتاب والسنة ، مثل الألفاظ التي استنبطت منها المعاني ، وقيس عليها غيرها ، لأن الأصل
[ ص: 93 ] إذا استنبطت منه معنى ، وألحق به غيره ، لا يقال : لم يتناوله النص ، بل يتناوله ، لأن النبي عليه السلام أشار إليه بالتنبيه كإلحاق المطعومات في باب الربا بالأربعة المنصوص عليها ، إذ حقيقة القياس بيان المراد بالنص ، وقد أمر الله أهل التكليف بالاعتبار ، والاستنباط ، والاجتهاد ، فهذه مراتب البيان في الأدلة الشرعية عند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
وقد اعترض عليه فيها قوم وتوهموا أنه أهمل قسمين : وهما : الإجماع ، وقول المجتهد إذا انقرض عصره ، وانتشر من غير نكير ، وإنما لم يذكرهما
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، لأن كل واحد منهما إنما يتوصل إليه بأحد الأقسام الخمسة التي ذكرها الشافعي ، لأن الإجماع لا يصدر إلا عن دليل ، فإن كان نصا فهو من القسم الأول ، وإن كان استنباطا فهو من الخامس . فإن قيل : فينبغي أن لا يذكر أيضا القياس ، لأنه مستند إلى النص . قلنا : لأجل هذا قال
إمام الحرمين ،
وابن القشيري : لا مدفع للسؤال ، لكنه مدفوع بوجهين : أحدهما : أن الإجماع على غير ما دل عليه النص ، فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر بخلاف الآخر ، فإنه إنما دل على وجوب العمل به ، وليس دالا على مدلوله فلذلك أفرده بالذكر . والثاني : يحتمل أن يكون
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي تعرض لمراتب البيان الموجودة في كل عصر ، والإجماع لم يوجد في عصره عليه السلام ، فلهذا أغفله .
واعترض آخرون فقالوا : لم يذكر دليل الخطاب ، وهو حجة عنده ، وأجيب بأنه إن كان مفهوم الموافقة فهو يدخل في قسم البيان من الكتاب والسنة ، وإن كان مخالفة فهو من جملة ما استنبط بالاجتهاد ، فدخل في القسم الخامس .
[ ص: 94 ] وتعجب
nindex.php?page=showalam&ids=15140المازري من
الغزالي كيف حكى الاتفاق على أن مراتب البيان خمسة ، وإنما اختلفوا في أوضاعها . ثم قال أئمتنا ، منهم
ابن السمعاني : يقع بيان المجمل لستة أوجه : أحدها : بالقول وهو الأكثر ، كبيان نصب الزكوات ، كقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=62523لا قطع في تمرة ولا كسرة ، والقطع في ربع دينار } .
والثاني : بالفعل كقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=20870صلوا كما رأيتموني أصلي } ، {
nindex.php?page=hadith&LINKID=18285خذوا عني مناسككم } .
الثالث : بالكتاب كبيانه أسنان الديات ، وديات أعضاء البدن ، وكذا الزكوات .
الرابع : بالإشارة كقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14439الشهر هكذا ، وهكذا ، وهكذا } يعني ثلاثين يوما ثم أعاد الإشارة بأصابعه ثلاث مرات ، وخنس إبهامه في الثالثة ، يعني يكون تسعا وعشرين . قلت : وكذلك حديث
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك مع
أبي حدرد إذ أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه بيده أن ضع النصف ومثله في " المحصول " بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرير بيده . وقال : هذا حرام على ذكور أمتي .
الخامس : بالتنبيه : وهو المعاني والعلل التي نبه بها على بيان الأحكام ،
[ ص: 95 ] كقوله في بيع الرطب بالتمر : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=9085أينقص إذا جف } ؟ وقوله في قبلة الصائم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=797أرأيت لو تمضمضت } .
السادس : ما خص العلماء ببيانه عن اجتهاد ، وهو ما فيه الوجوه الخمس إذا كان الاجتهاد موصولا إليه من أحد وجهين : إما من أصل تغير هذا الفرع به ، وإما من طريق أمارة تدل عليه . وزاد شارح " اللمع " : سابعا : وهو البيان بالترك ، كما روي {
أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مسته النار } ، وقد يرجع إلى البيان بالفعل ، لأن الترك كف ، والكف فعل .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16392الأستاذ أبو منصور : قد رتب بعض أصحابنا ذلك ، فقال : أعلاها رتبة ما وقع من الدلالة بالخطاب ، ثم بالفعل ، ثم بالإشارة ، ثم بالكتابة ، ثم بالتنبيه على العلة .
قال : ويقع البيان من الله سبحانه بها كلها خلا الإشارة . وقال
الأستاذ : رتبها أصحابنا ، فقالوا : آكدها تبيين الشيء بلفظ صريح مع إعادته ، نحو : أعط زيدا أعط زيدا ، وفي الحديث {
nindex.php?page=hadith&LINKID=8980فنكاحها باطل باطل باطل } . ثم المؤكد نحو : {
فتم ميقات ربه أربعين ليلة } وفي الحديث : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=23833فابن لبون ذكر } {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24611فلأولى رجل [ ص: 96 ] ذكر } . ثم يليه الخطاب المستقل بنفسه كقوله : {
حرمت عليكم أمهاتكم } {
حرمت عليكم الميتة } ، ثم يليه ما يرد على لسان النبي عليه السلام نحو : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=13872البيعان بالخيار } ، {
nindex.php?page=hadith&LINKID=13514الولاء لمن أعتق } ، ثم الكتابة ، ثم الإشارة بتحريك اليد والرأس ، قال : ورأيت أصحابنا يقدمون ما ورد من الخطاب المجمل الذي لا يمكن الوقوف على معناه للعسر في اللسان على القياس ، وهو أولى منه ومقدم عليه لاستقلاله بنفسه وإمكان الوصول إلى المراد بأصله وفرعه ، وهما قسمان من البيان .
وأطلق جمع من أصحابنا أن البيان بالفعل أقوى من القول : قال
ابن الرفعة : وشاهده حلقه صلى الله عليه وسلم بالحج في أن اتباع الصحابة له أقوى من أمره وإذنه فيه كما جاء في الخبر . .