مما يترتب على التمييز : الإخلاص ومن ثم لم تقبل النيابة ; لأن المقصود اختبار سر العبادة ، قال
ابن القاص وغيره : لا يجوز
التوكيل في النية إلا فيما اقترنت بفعل ، كتفرقة زكاة ، وذبح أضحية ، وصوم عن الميت وحج وقال بعض المتأخرين : الإخلاص أمر زائد على النية لا يحصل بدونها وقد تحصل بدونه ، ونظر الفقهاء قاصر على النية ، وأحكامهم إنما تجري عليها ، وأما الإخلاص فأمره إلى الله ، ومن ثم صححوا عدم وجوب الإضافة إلى الله في جميع العبادات .
ثم للتشريك في النية نظائر ; وضابطها أقسام : الأول أن
ينوى مع العبادة ما ليس بعبادة فقد يبطلها ، ويحضرني منه صورة وهي ما إذا
ذبح الأضحية لله ولغيره ; فانضمام غيره يوجب حرمة الذبيحة ; ويقرب من ذلك ما لو
كبر للإحرام مرات ونوى بكل تكبيرة افتتاح الصلاة ، فإنه يدخل في الصلاة بالأوتار ; ويخرج بالأشفاع ; لأن من افتتح صلاة ثم افتتح أخرى بطلت صلاته ; لأنه يتضمن قطع الأولى ، فلو نوى الخروج بين التكبيرتين خرج بالنية ودخل بالتكبيرة ، ولو لم ينو بالتكبيرات شيئا ; لا دخولا ولا خروجا : صح دخوله بالأولى ; والبواقي ذكر ، وقد لا يبطلها ، وفيه صور :
منها : ما لو
نوى الوضوء أو الغسل والتبرد ، ففي وجه لا يصح للتشريك ; والأصح الصحة ; لأن التبرد حاصل : قصده أم لا ، فلم يجعل قصده تشريكا وتركا للإخلاص
[ ص: 21 ] بل هو قصد للعبادة على حسب وقوعها ; لأن من ضرورتها حصول التبرد .
ومنها : ما لو
نوى الصوم ، أو الحمية أو التداوي ، وفيه الخلاف المذكور .
ومنها : ما لو
نوى الصلاة ودفع غريمه صحت صلاته لأن اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى قصد ، وفيه وجه خرجه ابن أخي صاحب الشامل من مسألة التبرد .
ومنها : لو
نوى الطواف وملازمة غريمه ، أو السعي خلفه ، والأصح الصحة ، لما ذكر ، فلو لم يفرد الطواف بنية لم يصح ; لأنه إنما يصح بدونها ، لانسحاب حكم النية في أصل النسك عليه . فإذا قصد ملازمة الغريم كان ذلك صارفا له ولم يبق للاندراج أثر كما سيأتي .
ونظير ذلك في الوضوء :
أن تعزب نية رفع الحدث ثم ينوي التبرد أو التنظيف ، والأصح أنه لا يحسب المغسول حينئذ من الوضوء .
ومنها : ماحكاه
النووي عن جماعة من الأصحاب فيمن
قال له إنسان : صل الظهر ولك دينار ، فصلى بهذه النية أنه تجزئه صلاته ، ولا يستحق الدينار ، ولم يحك فيها خلافه .
ومنها : ما إذا
قرأ في الصلاة آية وقصد بها القراءة والإفهام ، فإنها لا تبطل .
ومنها ( 1 ) : تنبيه :
ما صححوه من الصحة في هذه الصور هو بالنسبة إلى الإجزاء ، وأما الثواب فصرح
ابن الصباغ بعدم حصوله في مسألة التبرد ، نقله في الخادم ولا شك أن مسألة الصلاة والطواف أولى بذلك .
ومن نظائر ذلك : مسألة
السفر للحج والتجارة ، والذي اختاره
ابن عبد السلام أنه لا أجر له مطلقا ، تساوى القصدان أم لا ، واختار
الغزالي اعتبار الباعث على العمل ، فإن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر ، وإن كان الديني أغلب كان له الأجر بقدره ، وإن تساويا تساقطا .
قلت : المختار قول
الغزالي ; ففي الصحيح وغيره " أن الصحابة تأثموا أن يتجروا في الموسم
بمنى فنزلت {
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } في مواسم الحج "
القسم الثاني : أن
ينوى مع العبادة المفروضة عبادة أخرى مندوبة .
وفيه صور :
منها ما لا يقتضي البطلان ويحصلان معا ، ومنها ما يحصل الفرض فقط ، ومنها ما يحصل النفل فقط ومنها : ما يقتضي البطلان في الكل .
فمن الأول :
أحرم بصلاة ونوى بها الفرض والتحية ; صحت ، وحصلا معا ، قال في شرح المهذب : اتفق عليه أصحابنا ، ولم أر فيه خلافا بعد البحث الشديد سنين . وقال
الرافعي nindex.php?page=showalam&ids=12795وابن الصلاح : لا بد من جريان خلاف فيه كمسألة التبرد ، قال
النووي : والفرق
[ ص: 22 ] ظاهر ، فإن الذي اعتمده الأصحاب في تعليل البطلان في مسألة التبرد هو التشريك بين القربة وغيرها وهذا مفقود في مسألة التحية ، فإن الفرض والتحية قربتان . إحداهما : تحصل بلا قصد ، فلا يضر فيها القصد ، كما لو
رفع الإمام صوته بالتكبير ليسمع المأمومين ، فإن صلاته صحيحة بالإجماع ، وإن كان قصد أمرين ، لكنهما قربتان . انتهى .
نوى بغسله غسل الجنابة والجمعة ، حصلا جميعا على الصحيح ، وفيه وجه . والفرق بينه وبين التحية حيث لم يجر فيها أنها تحصل ضمنا ولو لم ينوها ، وهذا بخلافها
نوى بسلامه الخروج من الصلاة والسلام على الحاضرين حصلا .
نوى حج الفرض وقرنه بعمرة تطوع أو عكسه حصلا .
ولو
نوى بصلاته الفرض وتعليم الناس جاز للحديث . ذكره
السنجي في شرح التلخيص .
صام في يوم عرفة مثلا قضاء أو نذرا ، أو كفارة ; ونوى معه الصوم عن عرفة ، فأفتى
البارزي بالصحة ، والحصول عنهما ، قال : وكذا إن أطلق فألحقه بمسألة التحية ، قال
الإسنوي : وهو مردود والقياس أن لا يصلح في صورة التشريك واحد منهما ، وأن يحصل الفرض فقط في صورة الإطلاق .
ومن الثاني :
نوى بحجه الفرض والتطوع ، وقع فرضا ; لأنه لو نوى التطوع انصرف إلى الفرض .
صلى الفائتة في ليالي رمضان ، ونوى معها التراويح ففي فتاوى
nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح حصلت الفائتة دون التراويح . قال
الإسنوي : وفيه نظر ; لأن التشريك مقتض للإبطال .
ومن الثالث :
أخرج خمسة دراهم ، ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع ، لم تقع زكاة ووقعت صدقة تطوع بلا خلاف .
عجز عن القراءة فانتقل إلى الذكر ، فأتى بالتعوذ ودعاء الاستفتاح ، قاصدا به السنة والبدلية لم يحسب عن الفرض ، جزم به
الرافعي .
خطب بقصد الجمعة والكسوف لم يصح للجمعة ; لأنه تشريك بين فرض ونفل ، جزم به
الرافعي .
ومن الرابع :
كبر المسبوق والإمام راكع تكبيرة واحدة ، ونوى بها التحريم والهوي إلى الركوع ، لم تنعقد الصلاة أصلا ، للتشريك . وفي وجه : تنعقد نفلا ، كمسألة الزكاة ، وفرق بأن الدراهم لم تجزئه عن الزكاة ، فبقيت تبرعا وهذا معنى صدقة التطوع ، وأما تكبيرة الإحرام فهي ركن لصلاة الفرض والنفل معا ، ولم يتمحض هذا التكبير للإحرام فلم ينعقد فرضا ، وكذا نفلا ; إذ لا فرق بينهما في اعتبار تكبيرة الإحرام .
نوى بصلاته الفرض والراتبة لم تنعقد أصلا
[ ص: 23 ]
القسم الثالث : أن
ينوي مع المفروضة فرضا آخر .
قال
ابن السبكي : ولا يجزئ ذلك إلا في الحج والعمرة .
قلت : بل لهما نظير آخر وهو أن ينوى الغسل والوضوء معا ، فإنهما يحصلان على الأصح ، وفي قول نص عليه في الأمالي لا يحصلان ; لأنهما واجبان مختلفان ، فلا يتداخلان ، كالصلاتين .
ولو
طاف بنية الفرض والوداع صح للفرض وهل يكفي للوداع ؟ حتى لو خرج عقبه أجزأه ولا يلزمه دم ؟ لم أر فيه نقلا صريحا ، وهو محتمل ، وربما يفهم من كلامهم أنه لا يكفي .
وما عدا ذلك إذا نوى فرضين بطلا ، إلا إذا أحرم بحجتين أو عمرتين ، فإنه ينعقد واحدة ، وإذا
تيمم لفرضين ، صح لواحد على الأصح .
( تذنيب ) :
يشبه ذلك ما قيل :
هل يتصور وقوع حجتين في عام ؟ وقد قال
الإسنوي : إنه ممنوع ، وما قيل في طريقه من أنه يدفع بعد نصف الليل فيرمي ويحلق ويطوف ، ثم يحرم من
مكة ويعود قبل الفجر إلى
عرفات ، مردود بأنهم قالوا : إن المقيم
بمنى للرمي لا تنعقد عمرته ، لاشتغاله بالرمي ، والحاج بقي عليه رمي أيام
منى قال : وقد صرح باستحالة وقوع حجتين في عام جماعة منهم
الماوردي ، وكذلك
أبو الطيب وحكى فيه الإجماع ، ونص عليه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في الأم الرابع : أن
ينوي مع النفل نفلا آخر :
فلا يحصلان . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15021القفال ونقض عليه بنيته الغسل للجمعة والعيد ، فإنهما يحصلان .
قلت : وكذا لو
اجتمع عيد وكسوف ، خطب لهما خطبتين ، بقصدهما جميعا ذكره في أصل الروضة ، وعلله بأنهما سنتان ، بخلاف الجمعة والكسوف ، وينبغي أن يلحق بها ما لو
نوى صوم يوم عرفة والاثنين مثلا ، فيصح ، وإن لم نقل بما تقدم عن
البارزي فيما لو نوى فيه فرضا لأنهما سنتان ، لكن في شرح المهذب في مسألة اجتماع العيد والكسوف أن فيما قالوه نظرا ، قال : لأن السنتين إذا لم تدخل إحداهما في الأخرى لا ينعقد عند التشريك بينهما ، كسنة الضحى وقضاء سنة الفجر ، بخلاف تحية المسجد وسنة الظهر مثلا ; لأن التحية تحصل ضمنا .
الخامس : أن
ينوي مع غير العبادة شيئا آخر غيرها ، وهما مختلفان في الحكم .
ومن فروعه : أن
يقول لزوجته : أنت علي حرام ، وينوي الطلاق والظهار ، فالأصح أنه يخير بينهما ، فما اختاره ثبت وقيل : يثبت . الطلاق لقوته . وقيل : الظهار ; لأن الأصل بقاء النكاح .