ذكر
تعارض الأصل والظاهر .
قال
النووي في شرح المهذب : ذكر جماعة من متأخري الخراسانيين : أن كل مسألة تعارض فيها أصل وظاهر أو أصلان ففيها قولان ، وهذا الإطلاق ليس على ظاهره فإن لنا مسائل يعمل فيها بالظاهر بلا خلاف ، كشهادة عدلين ، فإنها تفيد الظن ، ويعمل بها بالإجماع ، ولا ينظر إلى أصل براءة الذمة ، ومسألة بول الظبية وأشباهها ، ومسائل يعمل فيها بالأصل بلا خلاف .
كمن ظن حدثا ، أو طلاقا ، أو عتقا ، أو صلى ثلاثا أم أربعا فإنه يعمل فيها بالأصل بلا خلاف ، قال : والصواب في الضابط ما حرره
nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح فقال : إذا تعارض أصلان أو أصل وظاهر ، وجب النظر في الترجيح ، كما في تعارض الدليلين ، فإن تردد في الراجح فهي مسائل القولين ، وإن ترجح دليل الظاهر حكم به بلا خلاف ، وإن ترجح دليل أصلي حكم به بلا خلاف انتهى .
فالأقسام حينئذ أربعة : الأول : ما يرجح فيه الأصل جزما ، ومن أمثلته جميع ما تقدم من الفروع وضابطه أن يعارضه احتمال مجرد .
الثاني : ما ترجح فيه الظاهر جزما وضابطه : أن يستند إلى سبب منصوب شرعا ، كالشهادة تعارض الأصل ، والرواية ، واليد في الدعوى ، وإخبار الثقة بدخول الوقت أو بنجاسة الماء ، وإخبارها بالحيض ، وانقضاء الأقراء ، أو معروف عادة ، كأرض على شط نهر الظاهر أنها تغرق وتنهار في الماء ، فلا يجوز استئجارها ، وجوز
الرافعي تخريجه على تقابل الأصل والظاهر .
ومثل
الزركشي لذلك باستعمال السرجين في أواني الفخار ، فيحكم بالنجاسة قطعا ، ونقله عن
الماوردي ، وبالماء الهارب من الحمام لاطراد العادة بالبول فيه أو يكون معه ما يعتضد به كمسألة بول الصبية .
ومنه : لو
أخذ المحرم بيض دجاجة وأحضنها صيدا ففسد بيضه ، ضمنه لأن الظاهر أن الفساد نشأ من ضم بيض الدجاج إلى بيضه ، ولم يحك
الرافعي فيه خلافا .
[ ص: 65 ] الثالث : ما يرجح فيه الأصل على الأصح وضابطه : أن يستند الاحتمال إلى سبب ضعيف وأمثلته لا تكاد تحصر .
منها :
الشيء الذي لا يتيقن نجاسته ، ولكن الغالب فيه النجاسة ، كأواني وثياب مدمني الخمر ، والقصابين والكفار المتدينين بها كالمجوس ، ومن ظهر اختلاطه بالنجاسة وعدم احترازه منها ، مسلما كان أو كافرا ، كما في شرح المهذب عن
الإمام ، وطين الشارع والمقابر المنبوشة حيث لا تتيقن . والمعنى بها كما قال
الإمام وغيره : التي جرى النبش في أطرافها والغالب على الظن انتشار النجاسة فيها وفي جميع ذلك قولان ، أصحهما الحكم بالطهارة استصحابا للأصل .
ومن ذلك : ما لو
أدخل الكلب رأسه في الإناء ، وأخرجه وفمه رطب ، ولم يعلم ولوغه ، والأصح أنه لا يحكم بنجاسة الإناء ، فإن أخرجه يابسا ، فطاهر قطعا . ومن ذلك : لو سقط في بئر فأرة ، وأخذ دلو قبل أن ينزح إلى الحد المعتبر ، وغلب على الظن أنه لا يخلو من شعر ، ولم ير ، ففيه القولان . والأظهر الطهارة .
ومنها : إذا
تنحنح الإمام وظهر منه حرفان فهل يلزم المأموم المفارقة أم لا للظاهر الغالب المقتضي لبطلان الصلاة ، أولا ، لأن الأصل بقاء صلاته ، ولعله معذور في التنحنح ، فلا يزال الأصل إلا بيقين ؟ قولان أصحهما : الثاني .
ومنها : لو
امتشط المحرم فانفصلت من لحيته شعرات ، ففيه وجهان ، أصحهما : لا فدية ; لأن النتف لم يتحقق ، والأصل براءة الذمة . والثاني : يجب لأن المشط سبب ظاهر ، فيضاف إليه ، كإضافة الإجهاض إلى الضرب . ومنها :
الدم الذي تراه الحامل ، هل هو حيض ؟ قولان ، أصحهما : نعم ; لأن الأمر متردد بين كونه دم علة ، أو دم جبلة ، والأصل السلامة . والثاني : لا ; لأن الغالب في الحامل عدم الحيض .
ومنها : لو
قذف مجهولا وادعى رقه ، فقولان ، أصحهما : أن القول قول القاذف ، لأن الأصل براءة ذمته والثاني : قول المقذوف ; لأن الظاهر الحرية ، فإنها الغالب في الناس .
ومنها : لو
جرت خلوة بين الزوجين ، وادعت الإصابة فقولان أصحهما : تصديق المنكر ; لأن الأصل علمها .
والثاني : تصديق مدعيها ; لأن الظاهر من الخلوة الإصابة غالبا .
ومنها : لو
اختلف الزوجان الوثنيان قبل الدخول فقال الزوج : أسلمنا معا ، فالنكاح باق وأنكرت ، فالقول قوله في الأظهر ، لأن الأصل بقاء النكاح ، والثاني قولها لأن التساوي في الإسلام نادر فالظاهر خلافه .
[ ص: 66 ] ومنها :
دعوى المديون لا في مقابلة مال ، الإعسار ، فيه وجهان ، أصحهما : القول قوله ; لأن الأصل العدم ، والثاني : لا ; لأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئا . ومنها : إذا
ادعى الغاصب عيبا خلقيا في المغصوب ، كقوله : ولد أكمه أو أعرج أو فاقد اليد ، فوجهان أصحهما : القول قوله ; لأن الأصل العدم ، ويمكن المالك إقامة البينة .
والثاني : تصديق المالك لأن الغالب السلامة بخلاف ما لو ادعى عيبا حادثا فإن الأظهر تصديق المالك ; لأن الأصل والغالب دوام السلامة والثاني الغاصب لأن الأصل براءة ذمته ، فهذه الصورة تعارض فيها أصلان ، واعتضد أحدهما بظاهر .
ونظير ذلك : ما لو
جنى على طرف ، وزعم نقصه ، فإنه إن ادعى عيبا خلقيا في عضو ظاهر صدق الجاني في الأظهر لأن الأصل العدم وبراءة الذمة . والمالك يمكنه إقامة البينة ، وإن ادعى عيبا حادثا أو أصليا في عضو باطن فالأظهر : تصديق المجني عليه ; لأن الأصل السلامة .
ومنها : لو
ادعى المالك أنه كان كاتبا صدق الغاصب لأن الأصل العدم ، وبراءة الذمة مما زاد .
والقول الثاني : المالك لأن الغالب أن صفات العبد لا يعرفها إلا السيد . ومنها : لو
قال : هذا ولدي من جاريتي هذه ، لحقه عند الإمكان ، وهل يثبت كون الجارية أم ولد لأنه الظاهر أولا لاحتمال أن يكون استولدها بالزوجية ؟ فيه قولان رجح
الرافعي الثاني ، قال : ولهما خروج على تقابل الأصل والظاهر .
ومنها : لو
قال الراهن للمرتهن لم تقبض العين المرهونة عن الرهن بل أعرتكها فالأصح أن القول قوله لأن الأصل عدم اللزوم وعدم الإذن في القبض وقيل : قول المرتهن لأن الظاهر أنه قبضه عن الرهن .
ومنها :
جاء المتبايعان معا ، فقال أحدهما : لم أفارقه ، فلي خيار المجلس ، فالقول قوله لأن الأصل عدم التفرق ، كذا أطلق الأصحاب قال
الرافعي : وهو بين إن قصرت المدة . وأما إذا طالت فدوام الاجتماع خلاف الظاهر ، فلا يبعد تخريجه على تعارض الأصل والظاهر . وتابعه
ابن الرفعة .
ومنها :
طرح العصير في الدن ، وأحكم رأسه ثم حلف أنه لم يستحل خمرا ، ولم يفتح رأسه إلى مدة ، ولما فتح وجده خلا فوجهان أحدهما لا يحنث لأن الأصل عدم الاستحالة وعدم الحنث ، والثاني إن كان ظاهر الحال صيرورته خمرا وقت الحلف حنث وإلا فلا .
ومنها
جرح المحرم صيدا وغاب ولم يعلم هل برئ أو مات ؟ فالمذهب أن
[ ص: 67 ] عليه ضمان ما نقص ، لأن الأصل براءة الذمة من الزائد ، وقيل : عليه الجزاء كاملا ، لأنه قد صيره غير ممتنع ، والظاهر بقاؤه على هذه الحالة ، ولو غاب ووجده ميتا ولم يدر هل مات بجرحه أو بسبب آخر فهل يجب جزاء كامل ، أو ضمان الجرح فقط ؟ قولان قال في الروضة : أصحهما الثاني .
ونظيره في
مسألة الظبية : أن لا يرى الماء عقب البول ، بل تغيب ثم يجده متغيرا فإنه لا يحكم بأن التغير عن البول .
ونظيره أيضا : لو
جرح الصيد وغاب ثم وجده ميتا فإنه لا يحل في الأظهر . ومنها : لو
رمى حصاة إلى المرمى وشك : هل وقعت فيه أو لا ؟ فقولان أصحهما لا يجزيه لأن الأصل عدم الوقوع فيه وبقاء الرمي عليه ، والثاني : يجزيه لأن الظاهر وقوعها في المرمى .
الرابع : ما ترجح فيه الظاهر على الأصل بأن كان سببا قويا منضبطا وفيه فروع : منها : من
شك بعد الصلاة أو غيرها من العبادات ، في ترك ركن غير النية ، فالمشهور أنه لا يؤثر لأن الظاهر انقضاء العبادة على الصحة ، والثاني يقول : الأصل عدم فعله ، ومثله : ما لو
قرأ الفاتحة ثم شك بعد الفراغ منها في حرف أو كلمة فلا أثر له . نقله في شرح المهذب عن
الجويني .
وكذا لو
استجمر وشك : هل استعمل حجرين أو ثلاثة كما في فتاوى
البغوي قال
الزركشي : وقياسه كذلك فيما لو
غسل النجس وشك بعد ذلك : هل استوعبه ؟ ومنها :
اختلف المتعاقدان في الصحة والفساد فالأصح تصديق مدعي الصحة ; لأن الظاهر جريان العقود بين المسلمين على قانون الشرع ، والثاني لا لقول الأصل عدمها .
ومنها : لو
جاء من قدام الإمام واقتدى وشك هل تقدم ؟ فالأصح الصحة .
وقيل : لا ; لأن الأصل عدم تأخره .
ومنها : لو
وكل بتزويج ابنته ثم مات الموكل ولم يعلم : هل مات قبل العقد أو بعده ؟ فالأصل عدم النكاح وصححه
الروياني وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14958القاضي حسين " الأصح صحته لأن الظاهر بقاء الحياة .
ومنها : لو
ادعى الجاني رق المقتول صدق القريب في الأصح لأنه الظاهر . الغالب ومنها :
شهد في واقعة وعدل ثم شهد في أخرى بعد زمان طويل فالأصح طلب تعديله ثانيا لأن طول الزمان يغير الأحوال ، والثاني : لا لأن الأصل عدم التغيير .
ومنها : إذا
جومعت فقضت شهوتها ثم اغتسلت ثم خرج منها مني الرجل فالأصح وجوب إعادة الغسل ، لأن الظاهر خروج منيها معه ، والثاني لا ; لأن الأصل عدم خروجه .
[ ص: 68 ] ومنها :
قال المالك : أجرتك الدابة ، وقال الراكب ، بل أعرتني ، ففي قول ، يصدق الراكب ; لأن الأصل براءة ذمته من الأجرة ، والأصح : تصديق المالك ، إذا مضت مدة لمثلها أجرة ، والدابة باقية ، لأن الظاهر يقتضي الاعتماد على قوله في الإذن فكذلك في صفته .
ومنها : لو
ألقاه في ماء أو نار ، فمات ، وقال الملقي : كان يمكنه الخروج ، ففي ، قول يصدق ; لأن الأصل براءة ذمته ، والأصح عند
النووي : يصدق الولي لأن الظاهر أنه لو تمكن لخرج .
ومنها : إذا
رأت المرأة الدم لوقت يجوز أن يكون حيضا أمسكت عما تمسك عنه الحائض ; لأن الظاهر أنه حيض ، وقيل : لا ، عملا بالأصل .