( الفرق السادس والثلاثون والمائة بين قاعدة المنذورات وقاعدة غيرها من الواجبات الشرعية )
اعلم أن الأوامر تتبع المصالح كما أن النواهي تتبع المفاسد والمصلحة إن كانت في أدنى الرتب كان المرتب عليها الندب .
وإن كانت في أعلى الرتب كان المرتب عليها الوجوب ثم أن المصلحة تترقى ويرتقي الندب بارتقائها حتى يكون أعلى مراتب الندب يلي أدنى مراتب الوجوب وكذلك نقول في المفسدة التقسيم بجملته وترتقي الكراهة بارتقاء المفسدة حتى يكون أعلى مراتب المكروه يلي أدنى مراتب التحريم إذا تقرر ذلك علم حينئذ أن المصلحة التي تصلح للندب لا تصلح للوجوب لا سيما إن كان الندب في الرتبة الدنيا فإن الشرع خصص المرتبة العليا من المصالح بالوجوب وحث عليها بالزواجر صونا لتلك المصلحة عن الضياع كما خصص المفاسد العظيمة بالزجر والوعيد حسما لمادة الفساد عن الدخول في الوجود تفضلا منه تعالى عند أهل الحق لا وجوبا عقليا كما قالت المعتزلة ولو شاء الله تعالى لم يرتب ذلك ، هذا في الأحكام المقررة في أصل الشريعة وكذلك القول في الأسباب الشرعية لم يجعل صاحب الشرع شيئا سبب وجوب فعل على المكلف إلا وذلك السبب مشتمل على مصلحة تناسب الوجوب فإن قصرت عن ذلك جعلها سبب الندب وكذلك القول في أسباب التحريم والكراهة فبذل الرغيف للجوعان المشرف على الهلاك واجب .
وسبب الوجوب الضرورة وهذا السبب مشتمل على حفظ حياته وهي مصلحة عظيمة تصلح للوجوب وبذل الرغيف لمن يتوسع به على عائلته من غير ضرورة مندوب إليه وسبب هذا الندب التوسعة دون دفع ضرورة فلم تقتض التوسعة الوجوب لقصور مصلحتها وكذلك القول في بقية الأسباب الشرعية في باب الأوامر وفي [ ص: 95 ] باب النواهي ، إذا تقررت هذه القاعدة فاعلم أن صاحب الشرع جعل الأحكام على قسمين منها ما قرره في أصل شرعه ولم يكله إلى خيرة الخلق كوجوب الصلاة والصوم في رمضان وغير ذلك ومنها ما وكل وجوبه إلى خيرة الخلق فإن شاءوا أوجبوه على أنفسهم بإنشاء سببه وهو النذر وإن شاءوا لم يفعلوا ذلك وكما جعل الأحكام على قسمين جعل الأسباب أيضا على قسمين منها ما قرره في أصل شرعه ولم يكله إلى خيرة المكلف كالزوال ورؤية الهلال ومالك النصاب وغير ذلك ومنها ما وكله للعباد فإن شاءوا جعلوه سببا وإن شاءوا لم يجعلوه سببا وهو شرط النذور والطلاق والعتاق ونحوها فإنها أسباب لوجود حقيقة السبب فيها فإنها يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم ولم يحصر ذلك في المندوبات كما حصره في الأحكام المنذورات فلا يؤثر النذر إلا في نقل مندوب لواجب بطريق واحد وهو النذر بل عمم ذلك في سائر الممكنات المستقبلات من الواجبات والمحرمات وغيرها مما ليس من المكتسبات كهبوب الرياح ونزول الأمطار مما ليس فيه حكم شرعي ولا اكتساب اختياري فأي ذلك شاء المكلف جعله سببا لوجوب منذور عليه أو لزوم طلاق أو عتاق له إذا تقرر هذا حصل الفرق بين الواجب بالنذر والواجب المتأصل في الشريعة من وجهين
أحدهما قصور مصلحته عن الوجوب لأن مصلحته مصلحة الندب والالتزام لا يغير المصالح
ثانيهما أن سببه لا يناسب الوجوب كالأسباب المقررة في أصل الشريعة كما تقدم فكون المنذورات مستثنيات من القواعد من هذين الوجهين وهي الاستثناء عن قاعدة الأسباب أشد بعدا عن القواعد لأن الأحكام انتقلت فيها المندوبات للواجبات والمندوبات فيها أصل المصلحة وأما في الأسباب فقد يحصل ما هو قد عري عن المصلحة ألبتة كطيران الغراب وصرير الباب وعبور الناموس فلو قال إن طار الغراب فعلي صدقة درهم لزمه ذلك أو امرأته طالق أو غير ذلك لزمه جميع ما علقه إذا وجد المعلق عليه فصارت الأسباب أبعد عن القواعد من الأحكام مع بعد الأحكام في أنفسها فإن قلت كيف اقتضت الحكمة الإلهية اعتبار ما لا مصلحة فيه وإقامة مصلحة الندب للوجوب مع أن قاعدة عادة الله تعالى في الشرائع أن الأحكام تتبع المصالح على اختلاف رتبها قلت الأسباب يخلف بعضها بعضا فكما أن عظم المصلحة سبب الوجوب في عادة الشارع فكذلك ها هنا سبب آخر إذا فقدت هذه المصلحة وهي مصلحة أدب العبد مع الرب سبحانه وتعالى في أنه إذا وعد ربه بشيء لا يخلفه إياه لا سيما إذا التزمه وصمم عليه فأدب العبد مع الرب سبحانه وتعالى بحسن الوفاء وتلقي هذه الالتزامات بالقبول خلق كريم هو سبب خلف المصلحة التي في نفس [ ص: 96 ] الفعل فقد يستفاد من هيئة الفاعل وأحواله وأخلاقه مع خالقه ومعبوده مصالح عظيمة وأي مصلحة أعظم من الأدب حتى قال رويم لابنه يا بني اجعل عملك ملحا وأدبك دقيقا .
أي استكثر من الأدب حتى تكون نسبته في الكثرة نسبة الدقيق إلى الملح وكثير من الأدب مع قليل من العمل الصالح خير من كثير من العمل مع قلة الأدب وهذه القاعدة قد تقدم التنبيه عليها وهي أن الله تعالى أمر عباده أن يتأدبوا معه كما يتأدبوا مع أماثلهم فإن ذلك هو الممكن في عبادة الله تعالى فإنه لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ولما كان الأدب مع الملوك أعظم نفعا لفاعله وأجدى عليه من كثير الخدمة مع قلة الأدب كان الواقع مع الله تعالى ذلك وكذلك صدق الوعد والوفاء بالالتزام من محاسن الأخلاق بين العباد وفي معاملة الملوك ولما عظم هذا المعنى جعل هو سبب الوجود بدلا من المصالح في نفس الأفعال فتأمل ذلك وبهذا التقرير يظهر لك أن النذور وإن خرجت عن القواعد من زينك الوجهين فقد رجعت إلى القواعد من هذا الوجه وصارت على وفق القواعد من جهة أنه ما عرى الوجوب عن مصلحة تناسبه وعلى هذا التقرير أيضا حصل الفرق بين المنذورات والشروط من جهة أن مداركها غير مدارك الأسباب والواجبات الأصلية وهي مصالح غير مصالح أنفس الأفعال .
( الفرق السادس والثلاثون والمائة بين قاعدة المنذورات وقاعدة غيرها من الواجبات المتأصلة في الشريعة ) وهو من وجهين
( أحدهما ) قصور مصلحة الواجب بالنذر عن مصلحة الواجب المتأصل في الشريعة لأن مصلحة الواجب بالنذر مصلحة المندوب والالتزام لا يغير المصالح
( وثانيهما ) إن سبب الواجب بالنذر لا يناسب الوجوب لكونه قد يعرى عن المصالح رأسا كطيران الغراب في نحو قوله إن طار الغراب فعلي صدقة درهم بخلاف الأسباب المقررة في أصل الشريعة يتضح لك هذا الفرق بأربع قواعد
( القاعدة الأولى ) إن الأوامر تتبع المصالح والنواهي تتبع المفاسد وكل من المصلحة والمفسدة إن كان في أدنى الرتب كان المرتب على المصلحة الندب وعلى المفسدة الكراهة وإن كان كل منهما في أعلى الرتب كان المرتب على المصلحة الوجوب وعلى المفسدة التحريم ثم أن كلا من مصلحة الندب ومفسدة الكراهة تترقى فيرتقي الندب بارتقاء مصلحته حتى يكون أعلى مراتب الندب يلي أدنى مراتب الوجوب ويرتقي المكروه بارتقاء مفسدته حتى يكون أعلى مراتب المكررة يلي أدنى مراتب التحريم فالمصلحة التي تصلح للندب لا تصلح للوجوب لا سيما إن كان الندب في الرتبة الدنيا فإن الشرع خصص المرتبة العليا من المصالح بالوجوب وحث عليها بالزواجر صونا لتلك المصلحة عن الضياع كما أن المفسدة التي تصلح للمكروه لا تصلح للتحريم لا سيما إن كان المكروه في الرتبة الدنيا فإن الشرع خصص المفاسد العظيمة بالزجر والوعيد حسما لمادة الفساد عن الدخول في الوجود تفضلا منه تعالى عند أهل الحق لا وجوبا عقليا كما قالت المعتزلة ولو شاء الله تعالى لم يرتب ذلك
( القاعدة الثانية ) إن صاحب الشرع لم يجعل شيئا سبب وجوب فعل على المكلف إلا وذلك السبب مشتمل على مصلحة تناسب الوجوب فإن قصرت مصلحته عن ذلك جعله سبب الندب كما أنه لن يجعل شيئا سبب تحريم فعل على المكلف إلا وذلك السبب مشتمل على مفسدة تناسب التحريم فإن قصرت مفسدته عن ذلك جعله سبب الكراهة مثلا بذل الرغيف للجوعان المشرف على الهلاك واجب وسبب الوجوب الضرورة وهو مشتمل على حفظ حياته وهي مصلحة عظيمة تصلح للوجوب وبذل الرغيف لمن يتوسع به على عائلته من غير [ ص: 114 ] ضرورة مندوب إليه وسبب هذا الندب التوسعة فقط لا مع دفع ضرورة حتى تقتضي الوجوب وكذلك القول في بقية الأسباب الشرعية في بابي الأوامر والنواهي
( القاعدة الثالثة ) إن صاحب الشرع كما جعل الأحكام على قسمين قسم قرره في أصل شرعه ولم يكله إلى خيرة خلقه كوجوب الصلاة والصوم في رمضان وغير ذلك وقسم وكل وجوبه إلى خيرة خلقه فإن شاءوا أوجبوه على أنفسهم بإنشاء سببه وهو النذر وإن شاءوا لم يفعلوا ذلك كذلك جعل الأسباب على قسمين قسم قرره في أصل شرعه ولم يكله إلى خيرة المكلف كالزوال ورؤية الهلال وملك النصاب وغير ذلك وقسم وكله للعباد فإن شاءوا جعلوه سببا وإن شاءوا لم يجعلوه سببا وهو شرط النذور والطلاق والعتاق ونحوها فإنها أسباب من حيث إنها يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم كما هو حقيقة السبب
( القاعدة الرابعة ) إن صاحب الشرع حصر ما وكل وجوبه إلى خيرة الخلق من قسمي الأحكام وهو النذر في المندوبات فلا يؤثر النذر الوجوب إلا في نقل مندوب ولم يحصر ما وكل جعله سببا إلى خيرة المكلف من قسمي الأسباب في شيء بل عمم ذلك في سائر الممكنات المستقبلات من الواجبات والمحرمات وغيرها مما ليس من المكتسبات كهبوب الرياح ونزول الأمطار مما ليس فيه حكم شرعي ولا اكتساب اختياري فأي ذلك شاء المكلف جعله سببا لوجوب منذور عليه أو لزم طلاق أو عتاق له فهذه الأسباب الموكول جعلها سببا إلى خيرة المكلف أشد بعدا عن القواعد من الأحكام الموكول وجوبها لخيرة الخلق وهو النذر مع بعد الأحكام في أنفسها عن القواعد أيضا لأن الأحكام وإن انتقلت فيها المندوبات للواجبات والمندوبات فيها أصل المصلحة إلا أنها بعدت أيضا بإقامة مصلحة الندب للوجوب عن قاعدة أن الأحكام تتبع المصالح على اختلاف رتبها كما هو عادة الله تعالى في الشرائع وأما الأسباب فقد يجعل المكلف ما هو عري عن المصلحة ألبتة كطيران الغراب وصرير الباب سببا لنذره مثلا على خلاف قاعدة أن الأسباب لا بد من أن تشتمل على مصلحة مسبباتها كأن يقول إن طار الغراب فعلي صدقة درهم أو امرأته طالق أو غير ذلك فيلزمه جميع ما علقه على ذلك المعلق عليه إذا وجد وما اقتضت الحكمة الإلهية اعتبار ما لا مصلحة فيه من الأسباب وإقامة مصلحة الندب للوجوب في النذر وخروج مسألة النذور عن القواعد من ذينك الوجهين إلا لأنها رجعت إلى القواعد من جهة أخرى فإن الأسباب يخلف بعضها بعضا فعظم المصلحة الذي [ ص: 115 ] هو سبب الوجوب في عادة الشارع وإن فقد هاهنا مع فقد المصلحة في سببه رأسا إلا أنه خلفه سبب آخر وهو معنى عظيم متحقق بأمرين
( أحدهما ) أن مصلحة أدب العبد مع الرب سبحانه وتعالى بحسن الوفاء فيما وعد ربه به لا سيما وقد التزمه وصمم عليه أعظم المصالح إذ لا مصلحة أعظم من الأدب حتى قال رويم : لابنه يا بني اجعل عملك ملحا وأدبك دقيقا أي استكثر من الأدب حتى تكون نسبته في الكثرة نسبة الدقيق إلى الملح فإن كثير الأدب مع قليل من العمل الصالح خير من كثير من العمل مع قلة الأدب وما ذلك إلا لأن الله تعالى لما كان لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية كان الممكن في عبادته تعالى هو الأدب
( وثانيهما )
إن صدق الوعد والوفاء بالالتزام من محاسن الأخلاق بين العباد وفي معاملة الملوك فلعظم المعنى في هذين الأمرين صح جعلهما سبب الوجوب بدلا من المصالح في أنفس الأفعال ولم يعر الوجوب هاهنا عن مصلحة تناسبه فكان على وفق القواعد وبهذا التقرير يظهر الفرق بين المنذورات والشروط كما يظهر الفرق بينهما وبين الواجبات الأصلية من جهة أن مداركها غير مدارك الأسباب والواجبات الأصلية وهي مصالح غير مصالح نفس الأفعال فتأمل ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم .