الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الخامس والثلاثون والمائة بين قاعدة المساجد الثلاثة يجب المشي إليها والصلاة فيها إذا نذرها وقاعدة غيرها من المساجد لا يجب المشي إليها إذا نذر الصلاة فيهما )

قال مالك رحمه الله في المدونة إذا قال علي أن آتي إلى المدينة أو بيت المقدس أو المشي إليها فلا يأتي إليهما حتى ينوي الصلاة في مسجديهما أو ما يلازم ذلك وإلا فلا شيء عليه ولو نذر الصلاة في [ ص: 87 ] غيرها من المساجد صلى بموضعه وقاله الشافعي وأحمد بن حنبل وقال اللخمي قال القاضي إسماعيل ناذر الصلاة في المسجد الحرام لا يلزمه المشي إذا نذره قال والمشي في ذلك كله أفضل لأن المشي في القرب أفضل وهو قربة قال ومقتضى أصل مالك أن يأتي المكي المدينة لأنها أفضل فإتيانها من مكة قربة بخلاف الإتيان من المدينة إلى مكة وقدم الشافعي وأحمد بن حنبل المسجد الحرام عليها قال ابن يونس يمشي إلى غير الثلاثة المساجد من المساجد إن كان قريبا كالأميال اليسيرة ماشيا ويصلي فيه قال ابن حبيب إذا كان بموضعه مسجد جمعة لزمه المشي إليه وقال مالك وبه أفتى ابن عباس من بمسجد قباء وهو من المدينة على ثلاثة أميال وفي الجواهر الناذر إن كان بمكة أو المدينة ونذر بيت المقدس يصلي في مسجد موضعه لأنه أفضل وإن كان بالأقصى مضى إليهما ويمشي المكي إلى المدينة والمدني إلى مكة للخروج من الخلاف وأصل الباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد إيلياء والمسجد الحرام } فاقتضى ذلك عدم لزوم المشي إلى غيرها فإن كل ما وجب المشي إليه وجب إعمال الركاب إليه وإلا فلا وسر الفرق أن النذر لا يؤثر إلا في مندوب فما لا رجحان في فعله في نظر الشرع لا يؤثر فيه النذر وسائر المساجد مستوية من جهة أنها بيوت القرب والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة فيها فلا يجب الإتيان إلى شيء منها لعدم الرجحان فإن قلت إن المساجد أفضل من غيرها إجماعا .

وبعضها أفضل من بعض إما لكثرة طاعة الله تعالى فيها وإما لقدم هجرته أو لكثرة جماعته أو غير ذلك من [ ص: 88 ] أسباب التفضيل ومقتضى ذلك وجوب الصلاة فيها إذا نذرت لأجل الرجحان في نظر الشرع قلت سؤال جليل والجواب عنه أن القاعدة الشرعية أن الفعل قد يكون راجحا في نفسه ولا يكون ضمه لراجح آخر في نفسه راجحا في نظر الشرع وقد يكون ضمه راجحا فمن الأول الصلاة والحج راجحان في نظر الشرع كل واحد منهما في نفسه وليس ضمهما راجحا في نظر الشرع والصوم والزكاة راجحان منفردين وليس ضمهما راجحا في نظر الشرع بل قد يكون الفعلان راجحين في نظر الشرع وضمهما مرجوح في نظر الشرع كالصوم والوقوف بعرفة والتنفل في المصلى مع صلاة العيد والركوع وقراءة القرآن لقوله عليه السلام { نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا } والدعاء في بعض أجزاء الصلاة كما قبل التشهد ونحوه ومما رجح منفردا ومجتمعا الصوم والاعتكاف والتسبيح والركوع ونحو ذلك وقد تقدم بسط هذه القاعدة فاعتقاد رجحان المساجد على غيرهما أو رجحان بعضها على بعض لا يوجب اعتقاد ضم الصلاة إليها لأن اعتقاد الرجحان الشرعي يتوقف على مدرك شرعي ولم يرد بل ورد الحديث المتقدم بعد ذلك وليس لك أن تقول إن رجحانها إنما ثبت باعتبار الصلاة فيها فإني أمنع ذلك بل ما دل الدليل على رجحانها باعتبار الصلاة إلا باعتبار صلاة الفرض دون النفل من الصلاة لقوله عليه السلام { خير صلاة أحدكم في بيته إلا المكتوبة } مع أن المساجد من حيث هي مساجد مستوية بالنسبة إلى المكتوبة أيضا حتى يرد دليل شرعي يقتضي رجحان بعضها على بعض باعتبار فرض أو نفل فإن الرجحان الشرعي حكم شرعي يتوقف على مدرك شرعي والحديث السابق اقتضى عكس ذلك فلا يجب السعي حينئذ إلى مسجد [ ص: 89 ] غير الثلاثة وإن نذره .

وأما ما وقع من قوله يمشي إلى القريب فمراعاة لضرورة النذر على وجه الندب دون الإلزام وقول ابن حبيب يمشي إلى مسجد الجمعة مشكل يتوقف ذلك على دليل يدل عليه لما تقدم من القاعدة وكذلك قول الأصحاب يمشي إلى المسجد القريب استحسان من غير مدرك ظاهر والصواب ما تقدم فإن قلت القاعدة في النذر أنه لا يجزئ فعل الأعلى عن فعل الأدنى إذا نذره فمن نذر أن يتصدق برغيف لا يجزئه أن يتصدق بثوب وإن كان أعظم منه وقعا عند الله تعالى وعند المسلمين ومن نذر أن يصوم يوما لم يجزه أن يصليه بدلا عن الصوم وإن كانت الصلاة أفضل في نظر الشرع ومن نذر أن يحج لم يجزه أن يتصدق بآلاف من الدنانير على الأولياء والضعفاء ولا أن يصلي السنين مع أن الصلاة أفضل من الحج ونظائر ذلك كثيرة .

وإذا تقررت هذه القاعدة كيف صح في هذا الباب أن من نذر أن يصلي ببيت المقدس يصلي بالمدينة أو بمكة إذا كان مقيما بهما ولا يأتي بيت المقدس وغايته أنه ترك المفضول لفعل الفاضل والقاعدة منع ذلك فكيف ساغ ذلك هنا قلت ظاهر كلام الأصحاب أنه يصلي بالحرمين إذا كان مقيما بهما حالة النذر لأنه حينئذ نذر الخروج وترك الصلاة في [ ص: 90 ] الحرمين حتى يصليها ببيت المقدس فقد نذر المرجوح والنذر لا يؤثر في المرجوح بل في المندوب الراجح أما لو كان بغير المواضع الثلاثة من أقطار الدنيا ونذر المشي إلى البيت المقدس ينبغي أن يتعين عليه أو يقال الصلاة من حيث هي صلاة حقيقة واحدة فالعدول فيها عن الصفة الدنيا إلى الصفة العليا لا يقدح في موجب النذر ألا ترى أنه لو نذر أن يتصدق بثوب خلق أو غليظ وغير ذلك من الصفات التي لا تتضمن مصلحة بل هي مرجوحة في الثياب فتصدق بثوب جديد أو غير ذلك من الثياب الموصوفة بالصفات الجيدة فإنه يجزئه فإن النذر لما ورد على الثوب الخلق ورد على شيئين أحدهما أصل الثوب والآخر صفته فأما التصدق بأصل الثوب فقربة فتجب .

وأما التصدق بوصف الخلق فليس فيه ندب شرعي فلا يؤثر فيه النذر فيجزئ ضده فكذلك ها هنا لما نذر الصلاة ببيت المقدس فقد نذر الصلاة موصوفة بخمسمائة صلاة كما ورد في الحديث أن { الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة } وهذه الخمسمائة هي بعينها في الحرمين مع زيادة خمسمائة أخر لقوله عليه الصلاة والسلام { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام } [ ص: 91 ] فكل ما هو مطلوب للشرع في البيت المقدس هو موجود في الحرمين من أصل الصلاة وزيادة أجرها ولم يفترقا إلا في زيادة خمسمائة أخرى تحصل له في الحرمين وترك هذه الزيادة ليست مقصودة للشارع فلا جرم لم يتعلق بها نذر ويكون وزان ذلك من نذر أن يتصدق بثوب فتصدق بثوبين فإنه يجزئه إجماعا ولا يكون وزانه من نذر أن يصوم فصلى لأن خصوص الصوم من حيث هو صوم مطلوب لصاحب الشرع ولم يحصل هذا الخصوص في الصلاة كما حصل خصوص الخمسمائة في الألف من غير خلل ألبتة [ ص: 92 ] فهذا هو سر الفرق بين قاعدة عدم إجزاء خمسمائة أخرى لقوله الراجح عن المرجوح في العبادات وقاعدة إجزاء الصلاة بالحرمين عن الصلاة ببيت المقدس والصلاة في كل مسجد عن الصلاة في مسجد آخر من مساجد الأقطار فتأمل ذلك

( تنبيه ) مقتضى ما تقرر في النذر لزوم ثلاثة إشكالات على قواعد الفقهاء

( الإشكال الأول ) على ما يقول الفقهاء إن النذر لا يؤثر إلا في مندوب ولا تأثير له في واجب لأنه لازم له قبل النذر ولا في مباح لأن صاحب الشرع لا يلزم أحدا بفعل المباح نذره أم لا والمحرم والمكروه بطريق الأولى وإذا كانت القاعدة أن النذر لا يؤثر إلا في راجح في نظر الشرع أشكل على ذلك إذا نذر أن يتصدق بهذا الشعير ليس له أن يخرج عنه قمحا مع أن هذا الشعير مشتمل على أمرين أحدهما المالية وهي موجودة في القمح والتصدق بها راجح في نظر الشرع والثاني كونه شعيرا وكونه شعيرا لم يؤمر بخصوصه في الصدقة ولا هو راجح في نظر الشرع فكان يلزم أن لا يلزمه خصوص الشعير وكذلك إذا نذر أن يتصدق بهذا الثوب فتصدق بألف دينار لا يجزئه أو نذر أن يصوم لا تجزئه الصلاة مع اشتراكهما في القربة وليس في خصوص الصوم وجه يترجح به على الصلاة حتى يؤثر فيه النذر ويمنع من إقامة الصلاة مقامه وكذلك القول في جميع الأجناس [ ص: 93 ] تتعين من الأموال والعبادات يلزم خصوصها بالنذر وإن لم يكن ذلك الخصوص راجحا في نظر الشرع بل القربة ما اشتمل عليه مما هو مشترك بينه وبين غيره فقد أثر النذر فيما ليس براجح في نظر الشرع

( الإشكال الثاني ) على قاعدة من يقول النقدان لا يتعينان لعدم تعلق القصد بخصوصياتهم ا شرعا وعادة فيلزم هذا القائل أنه إذا نذر أن يتصدق بهذا الدرهم أن يتركه ويخرج غيره أو بهذا الدينار أن يتركه ويخرج غيره مع أن ظاهر كلامهم يقتضي تعيينه بالإخراج وذلك بمقتضى أن الخصوص يتعلق به قصد شرعي وعادي وهو خلاف قاعدتهم في عدم التعيين ويلزم إذا نذر أن يتصدق بهذا الدرهم أو بدراهم لم يعينها أن يخرج عوضها دنانير لأن التقرب في المالية لا في كونها دراهم أو دنانير بل قد يكون أحدهما أنفع للفقير وهو ما لم ينذر لراحته من الصرف في دفع الدراهم عن الدنانير المنذورة

( الإشكال الثالث ) مقتضى ما تقدم [ ص: 94 ] من تقديم المسجد الحرام على المسجد الأقصى لزيادة فضيلته مع تحصيل أصل التقرب أن تكون أجناس المنذورات كلها كذلك يقدم فاضلها على مفضولها ويخرج القمح بدل الشعير فيطلب الفرق .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الخامس والثلاثون والمائة بين قاعدة المساجد الثلاثة يجب المشي إليها والصلاة فيها إذا نذرها وقاعدة غيرها من المساجد لا يجب المشي إليها إذا نذر الصلاة فيها ) قلت ما حكاه لا كلام فيه وما قاله من أن الحديث يقتضي عدم لزوم المشي إلى غيرها ليس كما قال بل يقتضي عدم إعمال المطي إلى غيرها .

والمراد بذلك والله أعلم أن لا يتحمل مشقة السفر الذي يحوج إلى إعمال [ ص: 87 ] المطي إلا لهذه المساجد فيبقى السفر الذي لا يحوج إلى إعمال المطي وما دون ذلك مما ليس بسفر مسكوتا عنه في الحديث وما قاله من أن كل ما وجب المشي إليه وجب إعمال الركاب إليه وإلا فلا دعوى لا حجة فيما ذكر عليها والله أعلم . قال ( وسر الفرق أن النذر لا يؤثر إلا في مندوب إلى قوله فلا يجب الإتيان إلى شيء منها لعدم الرجحان ) قلت ما قاله من استواء المساجد وعدم الرجحان فيها دعوى لم يأت عليها بحجة .

قال ( فإن قلت إن المساجد أفضل من غيرها إجماعا وبعضها أفضل من بعض إلى قوله بل ورد الحديث المتقدم بعدم ذلك ) قلت ما قرره من القاعدة صحيح نقول بموجبه ولا يلزم عنه مقصوده وما قاله من اعتقاد رجحان المساجد على غيرها أو رجحان بعضها على بعض لا يوجب اعتقاد ضم الصلاة إليها ليس بصحيح فإن المساجد لا معنى لفضلها على غيرها أو فضل بعضها على بعض إلا بالنسبة إلى الصلاة فيها لا باعتبارها في أنفسها وما قاله من أن الرجحان الشرعي يتوقف على مدرك شرعي صحيح والمدرك الشرعي في ذلك الأمر [ ص: 88 ] المعلوم من الدين ضرورة أن الصلاة المكتوبة في المسجد أفضل منها في غيره وقوله بل ورد الحديث المتقدم بعدم ذلك ليس بصحيح بل ورد بعدم إعمال المطي لا بعدم المشي جملة فإن إعمال المطي أخص من المشي مطلقا ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم .

قال ( وليس لك أن تقول إن رجحانها إنما ثبت باعتبار الصلاة إلى قوله فلا يجب السعي حينئذ إلى مسجد غير الثلاثة وإن نذره ) قلت ما قاله من أن المساجد مستوية بالنسبة إلى المكتوبة مع تسليمه قبل هذا أن بعضها أفضل من بعض لا يتبين لي معناه وإذا لم تكن الأعمال في بعض المساجد أفضل من الأعمال في غيره فما المراد بفضل بعضها على بعض وما قاله من أن الحكم الشرعي يتوقف على مدرك شرعي صحيح وما قاله من أن الحديث السابق يقتضي عكس ذلك ليس بصحيح وقد سبق بيانه [ ص: 89 ]

قال ( وأما ما وقع من قوله يمشي إلى القريب فمراعاة لضرورة النذر على وجه الندب دون الإلزام ) قلت ما قاله في ذلك كلام ضعيف لا يصح إلا بحجة ولم يأت بها قال ( وقول ابن حبيب يمشي إلى مسجد الجمعة مشكل إلى قوله من القاعدة ) قلت إن ثبت له دليل فلا إشكال وإلا أشكل قال ( وكذلك قول الأصحاب يمشي إلى المسجد القريب استحسان من غير مدرك والصواب ما تقدم ) قلت كلامه هذا كلام متناقض وكيف يصح أن يكون قول الأصحاب استحسانا من غير مدرك وهل الاستحسان إلا مدرك عند القائلين به .

قال ( فإن قلت القاعدة في النذر أنه لا يجزئ فعل الأعلى عن فعل الأدنى إلى قوله ونظائر ذلك كثيرة ) قلت إنما لم يجزه فعل الأعلى عن فعل الأدنى وإن كان الأعلى أعظم قدرا لأن في ترك الأدنى المنذور مخالفة النذر وإذا خولف المنذور حصل ارتكاب الممنوع وهو عدم الوفاء لله تعالى بما التزم لوجهه .

قال ( وإذا تقررت هذه القاعدة كيف صح في هذا الباب أن من نذر أن يصلي بالبيت المقدس يصلي بالمدينة أو بمكة إلى قوله ينبغي أن يتعين عليه ) قلت نقول إذا كان الناذر مقيما بالحرمين كان في ضمن نذره الصلاة ببيت المقدس ترك الراجح وهو الصلاة بالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الذي قاله ليس بالظاهر وإنما يكون الأمر كذلك لو لم يكن ترك التنفل بالمسجدين جائزا أما وترك التنفل بهما جائز فلا يلزم ذلك فالظاهر ورود السؤال [ ص: 90 ]

قال ( أو يقال الصلاة من حيث هي صلاة حقيقة واحدة إلى قوله فيجزئ ضده ) قلت كأنه في هذا الوجه من الجواب رام الفرق فيما بين الجنسين والصفتين ففي الجنسين لا ينوب الأعلى عن الأدنى بخلاف الصفتين مع اتحاد الجنس فإنه تنوب الصفة العليا عن الدنيا وهذا الوجه وإن كان أظهر من الأول من جهة أن الصفة الدنيا ليست راجحة في نظر الشرع فإنه لا يقوى أيضا من جهة أن فيه مخالفة النذر من حيث الجملة قال ( فكذلك ها هنا لما نذر الصلاة ببيت المقدس نذر أصل الصلاة موصوفة بخمسمائة صلاة كما ورد في الحديث ) قلت لا يخفى ما في كلامه هذا من المسامحة في قوله موصوفة بخمسمائة صلاة وهو وإن كان في معنى موصوفة بأنها تعدل خمسمائة صلاة ليس من أوصاف المنذور حقيقة كما في الثوبين الجديد والخلق بل هو من أوصاف المنذور إضافة باعتبار الجزاء عليه وتنظير الوصف الإضافي بالحقيقي فيه ما فيه .

قال ( وهذه الخمسمائة هي بعينها في الحرمين مع زيادة خمسمائة أخرى لقوله عليه الصلاة والسلام { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام } ) قلت ليس والخمسمائة التي في بيت المقدس هي بعينها التي في الحرمين مع الزيادة ولا يصح ذلك كيف والأفعال تختلف باختلاف المكان والزمان وغير ذلك من الأمور الموجبة لاختلاف كل فعلين داخلين تحت جنس واحد مع أن هذه الخمسمائة ليست أفعالا واقعة من المكلف بل هي جزاء على فعله صلاة واحدة في البيت المقدس فكل كلامه هذا غير محقق ولا محصل إلا أن يريد أن المجزى عليه بخمسمائة والمجزى [ ص: 91 ] عليه بألف جنس واحد وهو الصلاة فلذلك وجه إلا أن عبارته بعيدة عن احتمال ذلك جدا .

قال ( فكل ما هو مطلوب للشرع في البيت المقدس هو موجود في الحرمين من أصل الصلاة وزيادة أجرها ولم يفترقا إلا في زيادة خمسمائة أخرى تحصل له في الحرمين ) قلت ما قاله من أن كل ما هو مطلوب للشرع من أصل الصلاة وزيادة أجرها غير صحيح فإن أجر الصلاة ليس بمطلوب وإنما هو موهوب وما قاله من أنهما لم يفترقا إلا في زيادة خمسمائة أخرى تحصل له في الحرمين غير صحيح أيضا فإنه ليس قدر ما يفضل به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مسجد المقدس مثل قدر ما يفضل به المسجد الحرام على حسب الخلاف في ذلك .

قال ( وترك هذه الزيادة ليست مقصودة للشارع فلا جرم لم يتعلق بها نذر ) قلت تلك الزيادة ليست فعلا للمكلف أصلا فليست مقصودة للشارع على وجه الندب إليها ولا على غير وجه الندب أصلا وإنما هي جزاء قال ( ويكون وزان ذلك من نذر أن يتصدق بثوب فتصدق بثوبين ) قلت ليس وزانه ما ذكر وكيف ينظر بين جزاء فعل المكلف وبين متعلق فعله هذا خلل واضح .

قال ( فإنه يجزئه إجماعا ) قلت لا يخلوا ناذر التصدق بثوب ثم يتصدق بثوبين من أن يقصد الخروج عن عهدة النذر بأحد الثوبين أو بهما معا فإن قصد الأول فذلك يجزئه بلا شك وإن قصد الخروج عن عهدة النذر بهما معا ففي ذلك نظر وما أرى دعوى الإجماع تصح في ذلك .

قال ( ولا يكون وزانه من نذر أن يصوم فصلى ) قلت قد تبين أنه ليس وزانه ما ذكر قبل وأما أنه ليس هذا وزانه فظاهر قال ( لأن خصوص الصوم من حيث هو صوم مطلوب لصاحب الشرع ولم يحصل هذا الخصوص في الصلاة ) قلت ما قاله في هذا صحيح ظاهر .

قال ( كما حصل خصوص الخمسمائة في الألف ) قلت لو كانت الخمسمائة والألف من أفعال المكلف لما صح حصول الخمسمائة في الألف فإن الخمسمائة مقيدة بالاقتصار عليها والألف مقيدة بتمامها والقيدان لا يجتمعان قال ( من غير خلل ألبتة ) قلت وأي خلل أعظم من خلل يؤدي إلى الجمع بين النقيضين [ ص: 92 ] قال ( فهذا هو سر الفرق إلى قوله فتأمل ذلك ) قلت ليته لم يفسر هذا السر فإن مثله مما يجب كتمه .

قال ( تنبيه مقتضى ما تقرر في النذر لزوم ثلاثة إشكالات على قواعد الفقهاء الإشكال الأول إلى آخر ما قاله في الإشكال الأول ) قلت ما قاله من أن النذر قد أثر فيما ليس براجح في نظر الشرع ليس بصحيح بل أثر في راجح في نظر الشرع من أجل أن كل ما ذكر مندوب إليه على الجملة لا من جهة أنه مندوب راجح وإنما لم ينب القمح عن الشعير والصلاة عن الصوم لأنه لم ينذر القمح ولا الصلاة فلو فعل التصدق بالقمح بدل الشعير أو فعل الصلاة بدل الصوم لكان قد خالف ما التزمه لله تعالى وليس للندب أثر إلا في تصيير المندوب من حيث هو مندوب واجبا خاصة وامتنعت نيابة الجنس الأعلى من العبادات عن الجنس الأدنى منها وكذلك نيابة الجنس الأعلى من متعلق العبادات عن الجنس الأدنى منه لأن فيه مخالفة النذر وجازت نيابة الصفة العليا من صفات متعلق العبادة عن الدنيا لأنه ليس في ذلك مخالفة للنذر والفرق بين الأمرين أن الجنس أعني جنس العبادة أو متعلقها مما هو جنس مقصود من مقاصد الشرع وصفة متعلقها إنما هي صفة ليست مقصودة له وعلى الصفة تتخرج مسألة ناذر الصلاة في المسجد الأقصى فلا إشكال والله أعلم [ ص: 93 ] قال ( الإشكال الثاني على قاعدة من يقول النقدان لا يتعينان إلى آخر ما قاله فيه ) قلت ما قاله وألزمه من يقول إن النقدين لا يتعينان صحيح والله أعلم .

قال ( الإشكال الثالث مقتضى ما تقدم من تقديم الحرام على الأقصى لزيادة فضيلته مع تحصيل أصل التقرب أن تكون أجناس المنذورات كلها كذلك يقدم فاضلها على مفضولها ويخرج القمح بدل الشعير فيطلب الفرق ) قلت ليس ما قاله في ذلك بصحيح فإن مسألة الحرام والأقصى ليست من نيابة الجنس عن الجنس بل من نيابة الصفة العليا عن الصفة الدنيا والله أعلم .

قلت وتلخيص القول في المنذورات عندي أن الناذر إذا نذر عملا من أعمال البر فإنه لا يخلو من أن يكون منذوره ذلك معين الشخص كما إذا قال لله علي أن أعتق هذا العبد أو أتصدق بهذا الثوب أو لا يكون منذوره ذلك معين الشخص فإنه لا يجزئه في الخروج عن عهدة ذلك النذر إلا ذلك المعين وإن لم يكن منذوره ذلك معين الشخص فلا يخلو أن يكون معين النوع كما إذا قاله لله علي أن أصوم أو لا يكون كذلك فإن كان معين النوع فلا يخلو مع كونه معين النوع أن يكون معين الصفة أو لا يكون كذلك فإن كان معين الصفة فلا يخلو أن تكون الصفة مما يتعلق بها مقصد شرعي أو لا تكون كذلك فإن كان معين النوع فقط فلا يجزئه إلا ذلك النوع بأي صفة كان وإن كان معين النوع والصفة من متعلق المقصد الشرعي فلا يجزئه إلا كذلك وإن كان معين النوع والصفة مما لا يتعلق بها مقصد شرعي فلا يجزئه بأدنى من تلك الصفة ويجزئه بأعلى منها وعلى هذا القسم تخرج مسألة الأقصى والحرام وإن كان غير معين النوع كما إذا قال لله علي أن [ ص: 94 ] أعمل عملا صالحا فإنه يجزئه أي عمل من أعمال البر عمله والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الخامس والثلاثون والمائة بين قاعدة المساجد الثلاثة يجب المشي إليها والصلاة فيها إذا نذرها وبين قاعدة غيرها من المساجد لا يجب المشي إليها إذا نذر الصلاة فيها )

مع أن القاعدة في النذر أنه لا يجزئ فعل الأعلى عن فعل الأدنى إذا نذره فمن نذر أن يتصدق برغيف لا يجزئه أن يتصدق بثوب وإن كان أعظم منه وقعا عند الله تعالى وعند المسلمين ومن نذر أن يصوم يوما لم يجزه أن يصليه بدلا عن الصوم وإن كانت الصلاة أفضل في نظر الشرع ومن نذر أن يحج لم يجزه أن يتصدق بآلاف من الدنانير على الأولياء والضعفاء ولا أن يصلي الستين مع أن الصلاة أفضل من الحج ونظائر ذلك كثيرة وإنما لم يجز فعل الأعلى عن فعل الأدنى وإن كان الأعلى أعظم قدرا لأن في ترك الأدنى المنذور مخالفة النذر وإذا خولف المنذور حصل ارتكاب الممنوع وهو عدم الوفاء لله تعالى بما التزم لوجهه فما وجه مخالفة الفقهاء هذه القاعدة فيمن نذر الصلاة في غير مسجد من المساجد الثلاثة وفيمن نذر الصلاة في المسجد الأقصى وهو بمكة أو المدينة حيث قال مالك في المدونة إذا قال على أن آتي إلى المدينة أو بيت المقدس أو المشي إليهما فلا يأتي إليهما حتى ينوي الصلاة في مسجديهما أو ما يلازم ذلك وإلا فلا شيء عليه ولو نذر الصلاة في غيرهما من المساجد صلى بموضعه وقاله الشافعي وأحمد بن حنبل .

وقال اللخمي قال القاضي إسماعيل ناذر الصلاة في المسجد الحرام لا يلزمه المشي إذا نذره قال والمشي في ذلك كله أفضل لأن المشي في القرب أفضل وهو قربة وهو مقتضى أصل مالك أن يأتي المكي [ ص: 111 ] المدينة لأنها أفضل فإتيانها من مكة قربة بخلاف الإتيان من المدينة إلى مكة وقدم الشافعي وأحمد بن حنبل المسجد الحرام عليها قال ابن يونس يمشي إلى غير الثلاثة المساجد من المساجد إن كان قريبا كالأميال اليسيرة ماشيا ويصلي فيه قال ابن حبيب إذا كان بموضعه مسجد جمعة لزمه المشي إليه وقال مالك وبه أفتى ابن عباس من بمسجد قباء وهو من المدينة على ثلاثة أميال وفي الجواهر الناذر إن كان بمكة أو المدينة ونذر بيت المقدس يصلي في مسجد موضعه لأنه أفضل وإن كان بالأقصى مضى إليهما ويمشي المكي إلى المدينة والمدني إلى مكة للخروج من الخلاف .

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد إيلياء والمسجد الحرام } إنما ورد بعدم إعمال المطي لا بعدم المشي جملة وإعمال المطي أخص من المشي مطلقا ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم فالمراد بالحديث والله أعلم أن لا يتحمل مشقة السفر الذي يحوج إلى إعمال المطي إلا لهذه المساجد فيتبقى السفر الذي لا يحوج إلى إعمال المطي .

وما دون ذلك مما ليس سفرا مسكوت عنه في الحديث قلت لم يخالف الفقهاء القاعدة المذكورة في مسألة ناذر الصلاة في المسجد الأقصى أو في غير مسجد من المساجد الثلاثة ضرورة أن القاعدة إنما اقتضت منع نيابة الجنس الأعلى من العبادات عن الجنس الأدنى منها وكذلك نيابة الجنس الأعلى من متعلق العبادات عن الجنس الأدنى منه لأن في ذلك مخالفة النذر فلم ينب القمح عن الشعير ولا الصلاة عن الصوم مثلا إلا أنه لم ينذر القمح ولا الصلاة فلو فعل التصدق بالقمح بدل الشعير أو فعل الصلاة بدل الصوم لكان قد خالف ما التزمه لله تعالى وليس للنذر أثر إلا في تصيير المندوب من حيث هو مندوب خاصة واجبا وأما نيابة الصفة العليا من صفات متعلق العبادة عن الدنيا فلا تقتضي القاعدة منعه لأنه ليس فيه مخالفة للنذر فيجوز الفرق بين الأمرين أن جنس العبادة أو جنس متعلقها هو جنس مقصود من مقاصد الشرع وأما صفة متعلق العبادات فإنما هو صفة ليست مقصودا للشارع وعلى الصفة تتخرج المسألة المذكورة فلا إشكال أصلا قاله ابن الشاط .

قال وتلخيص القول في المنذورات عندي أن الناذر عملا إذا نذر من أعمال البر فإنه لا يخلو من أن يكون منذوره ذلك معين الشخص كما إذا قال لله علي أن أعتق هذا العبد أو أتصدق بهذا الثوب أو لا يكون منذوره ذلك معين الشخص فإن كان منذوره ذلك معين الشخص فإنه لا يجزئه في الخروج عن عهدة ذلك النذر إلا ذلك المعين أو لم يكن منذوره ذلك معين الشخص فلا يخلو من أن يكون معين النوع كما إذا قال لله علي أن أصوم أو لا يكون [ ص: 112 ] كذلك فإن كان معين النوع فلا يخلو مع كونه معين النوع من أن يكون معين الصفة أو لا يكون كذلك فإن كان معين الصفة فلا يخلو من أن تكون الصفة مما يتعلق بها مقصد شرعي أو لا تكون كذلك .

فإن كان معين النوع فقط فلا يجزئه إلا ذلك النوع بأي صفة كان وإن كان معين النوع والصفة والصفة متعلق المقصد الشرعي فلا يجزئه إلا كذلك وإن كان معين النوع والصفة مما لا يتعلق بها مقصد شرعي فلا يجزئه بأدنى من تلك الصفة ويجزئه بأعلى منها وعلى هذا القسم تتخرج المسألة المذكورة وإن كان غير معين النوع كما إذا قال لله علي أن أعمل عملا صالحا فإنه يجزئه أي عمل من أعمال البر عمله ا هـ ومنه يتضح الفرق بين قاعدة وجوب المشي على من نذر الصلاة في أحد المساجد الثلاثة وهو بغيرها وبين قاعدة عدم وجوب المشي على من نذر المشي لمسجد من غير المساجد الثلاثة .

وهو في أحدها لأن القاعدتين من قسم ما تعين فيه النوع المنذور وصفته التي هي زيادة مضاعفة ذلك النوع في أحد المساجد الثلاثة على مضاعفته في غيرها من المساجد مع كون تلك الصفة مما لا يتعلق بها مقصد شرعي والحكم في هذا القسم كما علمت أنه لا يجزئ بأدنى من تلك الصفة ويجزئ بأعلى منها فوجب المشي في القاعدة الأولى لكون النوع المعين المنذور فيها أعلى مضاعفة في المساجد الثلاثة من مضاعفته في غيرها من المساجد فيجزئ وقد علمت أن شأن النذر تصيير المندوب من حيث هو مندوب واجبا ووسيلة الواجب واجبة فلذا وجب المشي هنا ولم يجب في القاعدة الثانية لكون النوع المعين المنذور فيها أدنى مضاعفة في مسجد من غير المساجد الثلاثة من مضاعفته في واحد منها فلا يجزئ إلا فعله فيما هو فيه من المساجد الثلاثة لكونه فيه أعلى مضاعفة فلذا لم يجب المشي هنا فتأمل ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم

( تنبيه ) قال العلامة الشيخ منصور بن إدريس الحنبلي في شرحه كشاف القناع على متن الإقناع عند قوله وإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما ما نصه لحديث الدارقطني عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي } وفي رواية { من زار قبري وجبت له شفاعتي } رواه باللفظ الأول سعيد قال ابن نصر الله لازم استحباب زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام استحباب شد الرحال إليها لأن زيارة الحاج بعد حجه لا تمكن بدون شد الرحل فهذا كالتصريح باستحباب شد الرحل لزيارته عليه الصلاة والسلام ا هـ قلت ولعل إمامنا مالكا رضي الله تعالى عنه يشير إلى هذا بقوله فيما تقدم من عبارة المدونة فلا يأتي إليهما حتى ينوي [ ص: 113 ] الصلاة في مسجديهما أو ما يلازم ذلك ا هـ وإن مما يلازم الصلاة في مسجد المدينة المنورة زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وأنه إذا قال علي أن آتي إلى المدينة ونوى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم يجب عليه الإتيان إليها لذلك لأن الزيارة مستحبة والمستحب يجب بالنذر فاحفظ ذلك .




الخدمات العلمية