قوله تعالى { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } قال بعض الفضلاء مقتضى حتى التي هي حرف غاية أن يكون ما قبلها مخالفا لما بعدها ويكون ما بعدها نقيض ما قبلها ويظهر من هذه القاعدة أن تكون المرأة حلالا إذا عقد عليها زوج آخر ووطئها وليس الأمر كذلك إجماعا بل هي حرام على حالها حتى يطلقها هذا الزوج وإذا طلقها لا تحل حتى يعقد عليها الزوج الأول وإذا عقد عليها الزوج الأول لا تحل حتى تنفى موانع الوطء من الحيض والصيام والإحرام وغير ذلك من الموانع فلم يحصل مقتضى الغاية فهل هذه هي الغاية باقية على بابها مقتضية لثبوت النقيض أو هي مستثناة عن قاعدة الغايات بالإجماع
( والجواب ) أنها باقية على بابها وتقريره أنها كانت محرمة بكونها أجنبية وبكونها مطلقة ثلاثا فلما تزوجها الزوج الثاني صارت مباحة من جهة الطلاق الثلاث وزال التحريم الناشئ عنه وبقي التحريم بكونها أجنبية وتجدد سبب آخر للتحريم وهو كونها زوجة لغيره فقد خلف السبب الزائل سبب آخر وزال التحريم الكائن بسبب الطلاق الثلاث وثبت مقتضى الغاية وإذا طلقها الزوج الثاني بقيت محرمة بالعدة وهو [ ص: 132 ] سبب متجدد وبكونها أجنبية فإذا عقد عليها الزوج الأول زال التحريم بسبب كونها أجنبية وبقيت محرمة بسبب ما تجدد من حيض أو صوم أو غيرهما فإذا زال ذلك ثبتت الإباحة المطلقة وكان الثابت قبل ذلك مطلق الإباحة المطلقة وقد تقدم الفرق بين مطلق الإباحة والإباحة المطلقة فظهر أن الغاية على بابها لم تخالف مقتضاها بل هي معمول بها واندفع الإشكال عن الآية ( المسألة الثانية )
إذا ترك الصلاة وزنى وهو محصن وارتد عن الإسلام وقتل النفس التي حرم الله فهذا قد أبيح دمه بكل واحد من هذه الأسباب فإذا عفا الأولياء عن القصاص ذهبت الإباحة الناشئة عن القتل وثبتت الإباحة الناشئة عن غير ذلك من الأسباب المذكورة فالإباحة المرتفعة ههنا نظير الإباحة الحاصلة في المسألة المتقدمة وهي مطلق الإباحة المنسوبة إلى سبب معين غير أنها في المسألة الأولى حاصلة وههنا ذاهبة فتأمل ذلك ( المسألة الثالثة )
( إحداها ) أن يدخل فيها على أن السبب فاعل للمسبب أو مدلوله وهذا شرك أو مضاه له والعياذ بالله تعالى إذ السبب والعلة في الشرع غير فاعل بنفسه بل دليل وأمارة فلذا قال ابن العربي في الأحكام لا تمنع في الشرع أن تكون العلة عامة والحكم خاصا أو أريد من العلة . ا هـ
( والثانية ) أن يدخل في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة كما هو الجاري على مقتضى عادة الله في خلقه وهو غالب أحوال الخلق في الدخول في الأسباب
( والثالثة ) أن يدخل في السبب على أن المسبب من الله تعالى لأنه المسبب وهذا يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه واعتباره فيه من جهة أن الله مسبب وذلك صحيح ولترك الالتفات إلى المسبب الذي هو القسم الأول ثلاث مراتب أيضا
( إحداها ) أن يدخل في السبب من حيث هو ابتلاء للعباد وامتحان لهم فإنها طريق إلى السعادة والشقاوة والآخذ لها من هذه الجهة آخذ لها من حيث وضعت مع التحقق بذلك فيها وهذا صحيح وصاحب هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها حينئذ تسبب بالإذن فيما أذن فيه ليظهر عبوديته لله فيه [ ص: 163 ] لا ملتفتا إلى مسبباتها وإن انجرت معها فهو كالمتسبب بسائر العبادات المحضة
( والثانية ) أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الالتفات إلى المسببات بناء على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده سواه واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة لأن بقاء الالتفات إلى ذلك كله بقاء من المحدثات وركون إلى الأعيان وهو تدقيق في نفي الشركة وهذا أيضا في موضعه صحيح
( والثالثة ) أن يدخل فيه بحكم الإذن الشرعي مجردا عن النظر في غير ذلك وإنما توجهه إلى السبب تلبية للآمر لتحقيقه بمقام العبودية وهذا شامل لجميع ما تقدم لأنه لما علم قصد الشارع في تلك الأمور توخى قصده من غير نظير في غيره فحصل له كل ما في ضمن ذلك المتسبب مما علم ومما لم يعلم فهو طالب للمسبب من طريق السبب وعالم أن الله هو المسبب وهو المبتلي به ومتحقق في صدق التوجه به إليه فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب لكن ذلك كله منزه عن الأغيار مصفى من الأكدار على ما ذكر من أن المسببات مرتبة على فعل الأسباب شرعا وأن الشارع يعتبر المسببات في الخطاب بالأسباب ويترتب بالنسبة إلى المكلف إذا اعتبره أمور : ( منها ) أن الله عز وجل جعل المسببات في العادة تجري على وزان الأسباب في الاستقامة أو الاعوجاج فإذا كان السبب تاما والتسبب على ما ينبغي كان المسبب كذلك وبالضد ( ومنها ) أن المسببات قد تكون خاصة بمعنى أن تكون بحسب وقوع السبب كالبيع المتسبب به إلى إباحة الانتفاع بالمبيع والنكاح الذي يحصل به حلية الاستماع والذكاة التي بها يحصل حل الأكل وكالسكر الناشئ عن شرب الخمر وإزهاق الروح المسبب عن حز الرقبة وقد تكون عامة كالطاعة التي هي سبب بالفوز في النعيم والمعاصي التي هي سبب في دخول الجحيم وبالجملة فالمسبب إن كان من شأن الالتفات إليه التقوية للسبب والتكملة له والتحريض في المبالغة في إكماله فهو الذي يجلب المصلحة وإن كان من شأن الالتفات إليه أن يكر على السبب بالإبطال أو بالإضعاف أو بالتهاون به فهو الذي يجلب المفسدة وهذان القسمان على ضربين
( أحدهما ) ما شأنه ذلك بإطلاق بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه بالنسبة إلى كل مكلف وبالنسبة إلى كل زمان وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف
( والثاني ) ما شأنه ذلك لا بإطلاق بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض فإنه ينقسم من جهة أخرى قسمين
( أحدهما ) ما يكون في التقوية والتضعيف مقطوعا به
( والثاني ) ما يكون في ذلك مظنونا [ ص: 164 ] أو مشكوكا فيه موضع نظر وتأمل فيحكم بمقتضى الظن ويوقف عند تعارض الظنون انظر الموافقات للإمام أبي إسحاق الشاطبي فإذا علمت هذا فاعلم أن الإباحة إن كانت منسوبة إلى سبب تام وتسببها عنه على ما ينبغي ثبتت به مطلقة أي من جميع الوجوه بحيث لا يجتمع معها التحريم أصلا فلا يكون على المكلف حرج في الإقدام على الفعل مطلقا وإن كانت منسوبة إلى سبب معين غير تام وسببها عنه ليس على ما ينبغي ثبتت باعتبار ذلك السبب المعين بحيث لا يكون عليه حرج في الإقدام على ذلك الفعل من جهة ذلك السبب ويكون عليه حرج في الإقدام باعتبار سبب آخر فيجتمع التحريم معها وسر ذلك أن أسباب التحريم قد يجتمع .
وقد تفترق وإن اجتمعت ولم يرتفع منها واحد ثبت التحريم مطلقا وإن ارتفعت ولم يبق منها واحد ثبتت الإباحة المطلقة وإن ارتفع من سببي التحريم أو أسبابه واحد ثبتت الإباحة باعتبار ذلك السبب المرتفع خاصة وبقي الفعل محرما باعتبار ما بقي من السببين والأسباب وكذلك إذا كان للتحريم سبب واحد فزال وخلفه سبب آخر صدقت الإباحة باعتبار زوال ذلك السبب الأول وصدق التحريم باعتبار المتجدد ولذلك نظائر كثيرة في الشريعة وبمعرفة هذا الفرق والالتفات إلى المسببات مع أسبابها تندفع إشكالات ترد في الشريعة على الفقه وعلى النصوص بسبب تعارض أحكام أسباب تقدمت مع أسباب أخر حاضرة ( منها ) أن مقتضى حتى التي هي حرف غاية أن يكون ما قبلها مخالفا لما بعدها ويكون ما بعدها نقيض ما قبلها ويظهر من هذه القاعدة أن قوله تعالى { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يقتضي أن تكون المرأة حلالا إذا عقد عليها زوج آخر ووطئها مع أن الأمر ليس كذلك إجماعا بل هي حرام على حالها حتى يطلقها هذا الزوج .
وإذا طلقها لا تحل للأول حتى تنقضي عدتها وإذا انقضت عدتها لا تحل للأول حتى يعقد عليها وإذا عقد عليها أي الزوج الأول لا تحل حتى تنتفي موانع الوطء من الحيض والصيام والإحرام وغير ذلك فلم يحصل مقتضى الغاية وحاصل دفعه أن مقتضى الغاية قد حصل من حيث إنها قد زال تحريمها الحاصل بكونها مطلقة ثلاثا لما تزوجها الزوج الثاني إلا أنه بقي تحريمها الناشئ عن كونها أجنبية وتجدد معه سبب آخر للتحريم صار خلفا عن السبب الزائل وهو كونها زوجة لغيره وإذا طلقها الزوج الثاني زال السبب المتجدد وخلفه سبب آخر متجدد مع سبب كونها أجنبية وهو كونها في العدة وإذا كملت العدة وعقد عليها الزوج الأول زال سببا التحريم وبقيت محرمة بسبب ما تجدد من حيض أو صوم أو إحرام أو غيرها [ ص: 165 ] فإذا زال ذلك أيضا ثبتت الإباحة المطلقة وكان الثابت قبل ذلك الإباحة المنسوبة إلى سبب مخصوص فظهر أن الغاية على بابها لم تخالف مقتضاها بل هي معمول بها واندفع الإشكال عن الآية ومنها أنه قد اجتمع على المكلف الامتثال مع بقاء العصيان إما في الفعل الواحد وإما في فعل متعدد فكان عاصيا ممتثلا في حالة واحدة ومأمورا منهيا من جهة واحدة وذلك تكليف بالمحال لا يمكنه وقد قال تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فلا بد أن يكون مكلفا بالخروج والتوبة في وجه يمكنه ولا يمكن مع بقاء حكم النهي في نفس الخروج فلا بد أن يرتفع حكم النهي في الخروج وذلك في مسائل
( المسألة الأولى ) من توسط أرضا مغصوبة به ثم تاب وأراد الخروج منها قال nindex.php?page=showalam&ids=12187أبو هاشم هو على حكم المعصية ولا يخرج عن ذلك إلا بانفصاله عن الأرض المغصوبة ، ورد الناس عليه قديما وحديثا
( المسألة الرابعة ) من رجع عن شهادته بعد الحكم بها وقبل الاستيفاء وبالجملة بعد تعاطي السبب على كماله وقبل تأثيره ووجود مفسدته أو بعد وجودها وقبل ارتفاعها إن أمكن ارتفاعها فقد اجتمع على المكلف هنا الامتثال مع بقاء العصيان وقد أشار الإمام في البرهان إلى تصوير هذا الاجتماع وصحته باعتبار أصل السبب الذي هو عصيان فانسحب عليه حكم التسبب وإن ارتفع بالتوبة لأن أصل التسبب أنتج مسببات خارجة عن نظره فهو وإن كان عاصيا ممتثلا هنا إلا أن الأمر والنهي لا يتواردان عليه في هذا التصوير لأنه من جهة العصيان غير مكلف به لأنه مسبب غير داخل تحت قدرته فلا نهي إذ ذاك ، ومن جهة الامتثال مكلف لأنه قادر عليه فهو مأمور بالخروج وممتثل به فلو نظر الجمهور إلى أن المسبب خارج عن نظر المكلف لم يستبعدوا اجتماع الامتثال مع استصحاب حكم المعصية إلى الانفصال عن الأرض المغصوبة بل وجدوا نفس الخروج ذا وجهين
( أحدهما ) وجه كونه سببا في الخلوص عن التعدي بالدخول في الأرض وهو من كسبه
( والثاني ) كونه نتيجة دخوله ابتداء وليس من كسبه بهذا الاعتبار إذ ليس له قدرة على الكف عنه فاتضح حينئذ معنى ما أراده الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12187وأبو هاشم وأن ما اعترض به عليهما لا يرد مع هذه الطريقة إذا تأملها أفاده الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات ( ومنها ) أن المكلف إذا ترك الصلاة وزنى وهو محصن وارتد عن الإسلام وقتل النفس التي حرم الله فقد أبيح دمه بكل واحد من هذه الأسباب فإذا [ ص: 166 ] عفا الأولياء عن القصاص ذهبت الإباحة الناشئة عن القتل وثبتت الإباحة الناشئة عن غير ذلك من الأسباب المذكورة فصار مباح الدم وغير مباحه لكن باعتبارين فتأمل ( ومنها ) اجتماع التحريم مضاعفا في أئمة ، وتعلقات الخطاب فيه بتصور من حيث إن الزنى محرم وبالبنت أشد وبها في الصوم أشد ومع الإحرام أشد وفي الكعبة أشد فيكون هذا الفعل محرما من أربعة أوجه وأنه مضاعف أربع مرات وخطاب التحريم قد حصل في هذه الصور أربع تعليقات فإذا تصورت اجتماع التحريمات تصورت ارتفاع بعضها وحصول الإباحة بالنسبة إلى ذلك السبب المرتفع مع التحريم بالنسبة لباقي الأسباب وتصورت أيضا اجتماع الوجوبات بتظافر أسبابها على الفعل وأنه قد يرتفع بعضها فيحصل عدم الوجوب بالنسبة إلى ذلك السبب المرتفع والوجوب بالنسبة لما عداه من الأسباب وكذا بقية الأحكام تارة تثبت مطلقة وتارة بالنسبة إلى سبب معين فتأمل ذلك والله أعلم .