( فائدة )
المصالح المحضة قليلة وكذلك المفاسد المحضة ، والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد ويدل عليه قوله عليه السلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=18128حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات } . والمكاره مفاسد من جهة كونها مكروهات مؤلمات ، والشهوات مصالح من جهة كونها شهوات ملذات مشتهيات ، والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته ، وينفر مما رجحت مفسدته على مصلحته ، ولذلك شرعت الحدود ووقع التهديد
[ ص: 15 ] والزجر والوعيد ، فإن الإنسان إذا نظر إلى اللذات وإلى ما يترتب عليهما من الحدود والعقوبات العاجلة والآجلة نفر منها بطبعه لرجحان مفاسدها ، لكن الأشقياء لا يستحضرون ذكر مفاسدها إذا قصدوها ، ولذلك يقدمون عليها ، فإن العاقل إذا ذكر ما في قبلة محرمة من التعزير والذم العاجلين والعقاب الآجل ، زجره ذلك .
وكذلك إذا ذكر اطلاع الرب سبحانه عليه حمله ألم الاستحياء والخجل على ترك المعصية واجتناب لذاتها ، وكذلك إذا فكر في المصالح الشاقة من الغموم والآلام دعاه ذلك إلى تركها ، فإذا ذكر ما يترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة حمله ذلك على الصبر على مكارهها ومشاقها ، ألا ترى أن المريض يصبر على ألم مرارة الدواء ، وألم قلع الأضراس المتوجعة وألم قطع الأعضاء المتآكلة ; لما يتوقع من لذات العافية وفرحاتها .
وكذلك إذا ذكر اطلاع الرب عليه ونظره إليه حمله ذلك على الطاعة وتحمل مكارهها ومشاقها ، وكذلك ترك الطعام الشهي والشراب الهني لما يتوقع من سوء عاقبة أكله وشربه ، ولو شاء الله لما جعل في الطاعات شيئا من المكاره والمشقات ، كما فعل بالملائكة ، ولما جعل في المعاصي شيئا من اللذات والراحات ، ولو فعل ذلك لما قعد أحد عن طاعة ولا أقدم على معصية ، ولكن سبق القضاء بشدة الابتلاء ، وليس الملائكة كذلك فإنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، إذ لا مشقة عليهم في ذلك ولا ألم .
وكذلك أهل الجنة يلهمون التسبيح ، كما يلهمون النفس ، وكذلك لو شاء الله لم يخلق الأوهام ولا الشكوك ولا التخيلات ولا الظنون في العقائد ولا في غيرها ، بل خلق العلم بالأشياء من غير توهم مضلل ولا شك متعب ، ولا تخيل مجهل ولا ظن موهم ، وليت شعري هل تزول هذه الأشياء في الجنة بحيث
[ ص: 16 ] لا يبقى لأهلها إلا محض العلوم التي بها يتم نعيمهم وسرورهم وفرحهم وحبورهم ، أم يبقى ذلك كما هو في الدنيا ؟ ولقد أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولعل هذا يكون من جملة ما أعد الله لهم ، فسبحان من لا تنفعه طاعة الطائعين ، ولا تضره معصية العاصين ، وإنما نفع الطاعات لأربابها وسوء المخالفات لأصحابها .