المسألة الثانية:
الوصية بعين شائعة في نوعها:
مثل: الوصية بشاة من غنمه، أو نخلة من نخيله، أو شقة من شققه، أو دار من دوره، أو بعير من إبله، أو سيارة من سياراته، أو سفينة من سفنه.
لا خلاف في صحة الوصية إذا كان الموصى به موجودا وقت الوصية
[ ص: 191 ] والموت، كما اتفقوا على بطلانها إذا لم يكن موجودا وقت الموت وإن كانت موجودة وقت الوصية.
وقد اختلف العلماء في
اشتراط وجود الموصى فيه وقت الوصية وعدمه على قولين:
الأول: أنه يشترط وجوده وقت الوصية.
وهو مذهب
المالكية ، وقول
الحنفية ، وأحد وجهين
للحنابلة.
القول الثاني: أنه لا يشترط وجوده.
وهو قول
للحنفية، ومذهب
الشافعية ، والوجه الثاني
للحنابلة.
وتظهر ثمرة الخلاف: فيمن ملك ذلك بعد الوصية، ومات والموصى به في ملكه، فعلى القول الأول تبطل الوصية، ولا شيء للموصى له، وعلى الثاني تصح، ويعطى للموصى له وصيته.
أدلة القول الأول: (عدم اشتراط وجود الموصى فيه وقت الوصية ) :
1 - القياس على الوصية بالدراهم المرسلة كألف درهم; فإنه لا يشترط تملكها وقت الوصية.
2 - القياس على الوصية بجزء شائع كثلث ماله، أو ربعه; فإنه لا يشترط وجود مال له وقت الوصية، فكذلك هنا.
وحجة من قال باشتراط وجود الموصى فيه وقت الوصية:
استدلوا على اشتراط وجود الموصى فيه وقت الوصية وبطلانها إذا لم يكن موجودا ولو وجد عند الموت:
1 - أنه أوصى بما لا يملك ولا وصية فيما لا يملك.
[ ص: 192 ] ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم ; إذ لم يوص بمعين.
وإنما أوصى بفرد مبهم.
2 - أن تقييد الوصية بقوله من غنمي مثلا جعل كلامه كالهذيان; لأنه لا غنم له، ومن شروط الوصية الجدية في إنشائها، وعدم الهزل فيها كما سبق.
ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم; إذ قوله: « من غنمي » مثلا ، باعتبار ما سيكون، وهذا صحيح لغة.
1 - القياس على من قال: أوصيت له بداري، ولا دار له، فإن الوصية تكون باطلة، فكذلك هنا.
ونوقش هذا الاستدلال: بالفرق; إذ قوله بداري وصية بمعين غير موجود، أما هنا فوصية بمبهم، وأيضا عدم الجواز غير مسلم.
وسبب الخلاف: هو هل المعتبر في الملك وقت الوصية أو وقت الموت، فمن اعتبر الأول قال ببطلانها، ومن اعتبر الثاني قال بصحتها.
الراجح:
يترجح - والله أعلم - القول الأول; إذ المعتبر في الوصايا وقت الموت، والأصل إعمال كلام الموصي لا إهماله ، ما لم توجد قرينة.
وأما قدر ما يجب فيها فعلى أقوال:
القول الأول: أن الموصى له شريك بالجزء في نوع المال الموصى فيه بنسبة العدد الموصى به وقت الوصية، للعدد الموجود يوم تنفيذ الوصية، زاد
[ ص: 193 ] المال أو نقص، وإذا لم يبق إلا العدد الموصى به، فإنه يأخذه الموصى له وحده إذا حمله الثلث، أو قدر ما يحمله منه إذا كان أكثر من الثلث.
فإذا كانت الوصية بعشر شياه من غنمه، وهي خمسون يوم الوصية، فكأنه أوصى له بخمس الغنم ; لأنها نسبة عشرة إلى خمسين، فإذا بقيت الغنم كذلك فذاك، وإذا زادت أو نقصت اعتبرت تلك النسبة، فإذا نمت فأصبحت مئة فإنه يكون شريكا بالعشر لا بالخمس; لأن المعتبر يوم التنفيذ، وإذا نقصت فصارت عشرين كان شريكا بالنصف، فتجزأ الغنم إلى عشرة أجزاء في المثال الأول، وإلى جزأين في الأخير معتبرا في ذلك القيمة، ثم يقرع بينهما، فمن نابه شيء أخذه.
وباعتبار القيمة في القسمة دون العدد يمكن أن ينوبه في سهمه عشرة أو عشرون أو أكثر لاختلاف الغنم كبرا وصغرا، وجودة ورداءة، وسمنا وهزالا.
فإذا ماتت الغنم ولم يبق إلا العدد الموصى به أو أقل، فإن الموصى له يأخذ ذلك وحده، ولا ينقص له عن العدد المسمى.
وإذا وصى بعشرة وهي خمسون، فمات عشرون أعطي ثلث الباقي، وإن هلك ثلاثون أعطي نصف الباقي، وإن بقي خمسة عشر فله الثلثان.
وهو المشهور عند
المالكية .
القول الثاني: أنه شريك بالجزء مطلقا زاد المال أو نقص، ولو لم تبق إلا واحدة.
وبه قال بعض
المالكية .
فإذا أوصى له بشاة من غنمه وهي خمسة، فقد أوصى بخمس غنمه، فإذا هلكت ولم تبق إلا واحدة أعطي خمسا، وهكذا.
[ ص: 194 ] وحجة هذا القول: مراعاة لفظ الموصي، والنسبة بين العدد الموصى به والموصى فيه، زاد المال أو نقص، بخلاف القول الأول، فإنه راعى النسبة إذا بقي المال على حاله أو زاد، أما إذا نقص فإنه يعتبر عنده العدد حينئذ.
القول الثالث: أنه يعطى للموصى له بعدد ما وصي له به، فإن كانت الوصية بواحدة أعطي واحدة، وإن كانت بعشرة أعطي عشرة، وهكذا بقطع النظر عن القيمة وبلا قرعة; وقوفا مع لفظ الوصية.
وللورثة أن يعطوه أقل ما يصدق عليه الاسم، ولا يلزمهم الوسط ولا الأعلى; لقاعدة المطلق يخرج من العهدة منه بأقل ما يصدق عليه اللفظ، وقاعدة حمل اللفظ على أقل مدلولاته.
ولا يجوز للورثة إمساك ما في التركة وإعطاؤه من غيرها، ولو تراضيا على ذلك، إلا إذا لم يكن في التركة إلا العدد الموصى به ; فإنه يتعين دفعه بعينه ولو كان أعلى وأجود.
فإذا أوصي بسيارة من سياراته، أو دار من دوره، ومات وليس له إلا سيارة فاخرة أو دار فخمة، فإنه يتعين إعطاؤهما للموصى له، إلا أن يصالحوه على غيرها، فيجوز عندهم ; لأنه صلح على معين، بخلاف ما إذا كان في التركة أكثر من العدد الموصى به، فإنه لا يجوز الصلح وإعطاؤه من غير التركة; لأنه صلح على مجهول، وذلك أنه إذا أوصى له بسيارة من سياراته فمات عن خمس سيارات مثلا، فإن الواجب واحدة غير معينة، فيجوز إعطاؤه أي واحدة منها، فإذا صالحوه بإعطاء غيرها، فقد صالحوه على غير معين، فلا يجوز.
وهو مذهب
الشافعية .
[ ص: 195 ] والمذهب عند
الحنابلة : أنه يعطى الموصى له ما يقع عليه الاسم.
وحجته: أنه يعطى الموصى له ما يقع عليه الاسم; لأنه اليقين كالإقرار.
القول الرابع: أن للورثة الخيار في إعطائه العين الموصى بها أو قيمتها ، ويلزمهم الوسط في الحالتين.
وهو مذهب
الحنفية .
وحجته: أن الوسط فيه مراعاة لحق الورثة وحق الموصى له.
القول الخامس: أن الموصى له شريك بالعدد الموصى به يأخذه بالقرعة، فإذا أوصى له بشاة من غنمه أو سيارة من سياراته ، فإنه يعطى واحدة بالقرعة.
وبه قال بعض
المالكية ، وأحد قولي
الحنابلة .
وحجته: أن القرعة طريق لإخراج المبهم من بين أمثاله.
والأقرب أن يقال: إن كان هناك عرف أو قرائن رجع لها، وإن لا كما ذكر
الشافعية والحنابلة : أنه يعطى أقل ما يقع عليه الاسم، لوجود الدلالة اللغوية.