قال: «فيقول: أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك، كما نسيتني. ثم يلقى الثاني، فيقول: أي: فل! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك: الخيل، والإبل، وأذرك: ترأس، وتربع ؟ فيقول: بلى. أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك، كما نسيتني.
ثم يلقى الثالث، فيقول له: مثل ذلك. فيقول: يا رب! آمنت بك، وبكتابك، وبرسلك. وصليت، وصمت، وتصدقت. ويثني بخير، ما استطاع. فيقول: هاهنا، إذا.
قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك. ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه. ويقال لفخذه، ولحمه، وعظامه: انطقي. فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه: بعمله. وذلك، ليعذر من نفسه. وذلك المنافق. وذلك الذي يسخط الله عليه»).
[ ص: 86 ] (الشرح)
(عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة، رضي الله عنه) ؛ قال: قالوا: يا رسول الله ! هل نرى ربنا، يوم القيامة ؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس، في الظهيرة).
وفي رواية أخرى في كتاب الإيمان: «تضامون»: وروي «تضارون».
بتشديد الراء، وبتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما.
ومعنى المشدد هل تضارون غيركم في حالة الرؤية: بزحمة، أو مخالفة في الرؤية وغيرها، لخفائه ؟ كما تفعلون في الظهيرة. (ليست في سحابة).
ومعنى المخفف: هل يلحقكم في رؤيته، ضير ؟ «وهو الضرر».
وروي أيضا: «تضامون» بتشديد الميم، وتخفيفها ؛ فمن شددها: فتح التاء. ومن خففها: ضم التاء.
[ ص: 87 ] ومعنى المشدد: هل تتضامون، وتتلطفون: في التوصل إلى رؤيته ؟ ومعنى المخفف: هل يلحقكم ضيم ؟ وهو المشقة، والتعب.
قال nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض: قال فيه «بعض أهل اللغة»: «تضارون، وتضامون» بفتح التاء: وتشديد الراء، والميم.
وأشار nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض بهذا: إلى أن غير هذا القائل، يقولهما «بضم التاء» سواء شدد، أو خفف. وكل هذا صحيح، ظاهر المعنى.
وفي رواية nindex.php?page=showalam&ids=12070للبخاري: «لا تضامون - أو لا تضارون -» على الشك. ومعناه: لا يشتبه عليكم وترتابون فيه ؛ فيعارض بعضكم بعضا: في رؤيته. والله أعلم.
(قالوا: لا. قال: «فهل تضارون في رؤية القمر - ليلة البدر - ليس في سحابة ؟ » قالوا: لا. قال: «فوالذي نفسي بيده ! لا تضارون في رؤية ربكم عز وجل: إلا كما تضارون: في رؤية أحدهما»).
قال النووي معناه: تشبيه الرؤية بالرؤية -، في الوضوح، وزوال: الشك والمشقة، والاختلاف -.
قال: وإن مذهب أهل السنة (بأجمعهم): أن رؤية الله تعالى ممكنة، غير مستحيلة عقلا. وأجمعوا أيضا: على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى، دون الكافرين.
قال: وزعمت طائفة من أهل البدع (المعتزلة، والخوارج، وبعض المرجئة) أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا. وهذا الذي قالوه: خطأ صريح، وجهل قبيح. وقد تظاهرت أدلة الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، فمن بعدهم: من سلف الأمة: على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، للمؤمنين.
[ ص: 89 ] ورواها نحو عشرين صحابيا، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وآيات القرآن فيها: مشهورة.
واعتراضات «المبتدعة» عليها: لها أجوبة مشهورة، في كتب المتكلمين من أهل السنة.
وكذلك باقي شبههم. وهي مستقصاة في كتب الكلام. وليس بنا ضرورة: إلى ذكرها هنا.
وأما رؤية الله (في الدنيا)، فإنها ممكنة. ولكن الجمهور من السلف والخلف - من المتكلمين وغيرهم -، قالوا: إنها لا تقع في الدنيا.
وحكى القشيري في رسالته - عن ابن فورك - أنه حكى فيها: قولين لأبي الحسن الأشعري ؛ أحدهما: وقوعها. والثاني: لا تقع.
ثم مذهب أهل الحق: أن «الرؤية» قوة، يجعلها الله تعالى في خلقه. ولا يشترط فيها: اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي، ولا غير ذلك.
لكن جرت العادة في رؤية بعضها بعضا: بوجود ذلك، على جهة الاتفاق، لا على سبيل الاشتراط.
وقد قرر أئمتنا المتكلمون: ذلك بدلائلهم الجلية. ولا يلزم من رؤية [ ص: 90 ] الله تعالى: إثبات جهة، تعالى عن ذلك. بل يراه المؤمنون - لا في جهة - كما يعلمونه لا في جهة -. والله أعلم..
هذا آخر كلام النووي. وهو صحيح، موافق لمذهب أهل الحق - من أصحاب الكتاب، والسنة -: في إثبات الرؤية للمؤمنين.
وقد حررنا هذه المسألة، في مؤلفات عديدة لنا ؛ مثل «مثير ساكن الغرام، إلى روضات دار السلام». و «يقظة أولي الاعتبار، في ذكر النار وأصحاب النار». و «الانتقاد الرجيح، في شرح الاعتقاد الصحيح. وغير ذلك.
وقد تكلم عليها: فحول العلماء ؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الحافظ ابن القيم، وغيرهما.
وكلام هذين الإمامين: أحسن وأدل على تحقيق الصواب.
وأما إنكار الجهة - من النووي، رحمه الله -، فقد قال به، تبعا للمتكلمين. وإلا، فقد أثبت سبحانه وتعالى - لنفسه المقدسة -: الفوق، والعلو. ونطق به حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: في غير حديث.
ولا يقدح ثبوت ذلك في تنزيهه سبحانه، كما زعمت المتكلمة. بل «ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير».
[ ص: 91 ] وإنما لنا: الأسماء فقط. وحقائقها: له سبحانه. ونحن نؤمن بجميع صفاته العليا، وأسمائه الحسنى. كما وردت. ولا نقول: كيف ؟ ولا نعطلها. ولا نؤولها. ولا نمثلها. بل نمرها على ما جاءت، ونكل علمها إليه سبحانه.
وهذه هي الطريقة المثلى، وعليها درج سلف الأمة وأئمتها، ومذهبهم أسلم بالإجماع، عند من يقول: بحجيته.
والتأويل (الذي هو مذهب الخلف): لم يدل دليل قط، على إيجابه. فالقصر على مشرب السلف (الموافق لظاهر الكتاب والسنة): أحق بالاتباع.
(قال: فيلقى العبد، فيقول: أي فل !) بضم الفاء، وإسكان اللام. معناه: يا فلان ! وهو ترخيم، على خلاف القياس.
وقيل: هي لغة بمعنى «فلان». حكاه nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض. (ألم أكرمك، وأسودك) أي: أجعلك سيدا على غيرك.
ومعناه بالموحدة: تأخذ المرباع، الذي كانت ملوك الجاهلية: تأخذه من الغنيمة. وهو «ربعها». يقال: «ربعتهم»، أي أخذت ربع أموالهم.
ومعناه: ألم أجعلك، رئيسا مطاعا ؟
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض - بعد حكايته نحو ما ذكرته -: عندي، أن معناه: تركتك مستريحا، لا تحتاج إلى مشقة وتعب. من قولهم: «أربع على نفسك». أي: ارفق بها.
ومعناه «بالمثناة»: تتنعم. وقيل: تأكل. وقيل: تلهو. وقيل: تعيش في سعة.
(فيقول: بلى. أي رب! قال: فيقول: أفظننت أنك: ملاقي ؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك، كما نسيتني) أي: أمنعك الرحمة، كما امتنعت من طاعتي.
(ثم يلقى الثاني، فيقول: أي فل ! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك: الخيل، والإبل. وأذرك: ترأس وتربع ؟ فيقول: [ ص: 93 ] بلى. يا رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي ؟ قال: فيقول: لا. فيقول: إني أنساك، كما نسيتني.
ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك. فيقول: يا رب ! آمنت بك، وبكتابك، وبرسلك. وصليت، وصمت، وتصدقت. ويثني بخير، ما استطاع. قال: فيقول: هاهنا إذا.