وبالجملة : فذنب الموحد الكامل يفعل ما لا تفعله عبادة غيره .
والفاسق الموحد أفضل من المتقي المشرك ألف درجة .
والرعوي الخاطئ المذنب المقصر في الطاعة أعلى رتبة من الباغي المداري المداهن المتملق ؛ لأن هذا نادم على تقصيراته ، ومعاصيه ، وهو مغرور بكيده .
ولا أرجى من هذا الحديث في هذا الباب ؛ لأن فيه بشارة عظمى لأهل التوحيد الذين لا يشركون شيئا في السر ، والعلانية ، وهم عن الشرك أبعد ، وعلى مراحل شاسعة منه .
ولكن الشأن كل الشأن في
انتهاء الإنسان عن الشرك بالرحمن ؛ فإنه أصعب الأمور ، والعقبة الكؤود في هذه الدهور ، ورب ناس يظنون أنهم موحدون ، وليسوا بمشركين ؛ لتركهم الإشراك في الظاهر ، وهم واقعون في شركه في الباطن كما قال تعالى :
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .
لأن الاتصاف بتوحيد الربوبية ، والخالقية سهل ، يتصف به أكثر الخلق ؛ من المؤمن ، والكافر .
وأما
الاتصاف بتوحيد الإلهية ، فأمر عسير لا يتصف به إلا من وفقه الله ، وأعطاه فهما صحيحا ، وقلبا سليما ، وفطرة إسلامية ؛ فإن الشرك أخفى من دبيب النمل ، وقد يتطرق في أفعال القلوب ، والجوارح ، والأعمال ، والنيات بحيث لا يشعر به ، ولا يدري ، ولا ينجو منه كل أحد إلا من حقق التوحيد ، وتمسك به ، وحقق الشرك ، وطرائقه ، وحقائقه .
ولا يبلغ العبد هذه الرتبة إلا بالاعتصام بكتاب الله سبحانه ، وبسنة رسوله المطهرة صلى الله عليه وسلم؛ فإن فيهما بيان ذلك، وليس بعد هذا البيان بيان ، ولا قرية بعد عبادان .
ومن ظن أن الاطلاع على الشرك وأنواعه ، يحصل بالاشتغال بغير هذين الأصلين من كلام الأحبار والرهبان ، لا سيما أهل الدنيا منهم ، فهو مغرور لا يهتدي إلى الحق سبيلا .
[ ص: 401 ] وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها ؟
قال في «فتح المجيد » : قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=665833«ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا » شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة ، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله ، وصغيره وكبيره ، حقيره وجليله .
ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله ، ذلك هو القلب السليم كما قال سبحانه
إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء : 89] .
قال
ابن رجب -رحمه الله - : من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا ، لقيه الله بقرابها مغفرة -إلى قوله : فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه ، وقام بشروط بقلبه ، ولسانه ، وجوارحه ، أو بقلبه ولسانه عند الموت ، أوجب ذلك مغفرة ، مع ما سلك من الذنوب كلها ، ومنعه من دخول النار بالكلية .
فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه ، أخرجت منه كل ما سوى الله محبة ، وتعظيما ، وإجلالا ، ومهابة ، وخشية ، وتوكلا ، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ، وإن كانت مثل زبد البحر .
قال العلامة
ابن القيم في معنى هذا الحديث ما لفظه :
ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لا يشوبه الشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك، فلو لاقى الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبتة ربه بقراب الأرض خطايا ، أتاه الله بقرابها مغفرة .
ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده ؛ فإن
التوحيد الخالص هو الذي لا يشوبه شرك ، ولا يبقى معه ذنب ، ولو كانت قراب الأرض ، فالنجاسة عارضة ، والدافع لها قوي . انتهى .