[ ص: 205 ] باب في بيان العلم وأنواعه
المراد بالعلم هنا: العلم بالكتاب والسنة، وقد تقدم في أول هذا النصيب الآخر باب الاعتصام بهما.
قال في الترجمة: المراد بالعلم هنا: علم الدين المتعلق بالكتاب والسنة، وهو على قسمين: مباد، ومقاصد.
والمبادي: علوم يتوقف معرفة الكتاب والسنة عليها؛ كاللغة، والنحو، والصرف، وغيرها من العلوم العربية.
والمقاصد: ما هو متعلق بالأعمال، والأخلاق، والعقائد. وهذه علم المعاملة.
وأما
علم المكاشفة: فهو نور يقذف في القلب بعد سلوك طريق الحق.
وصدق المعاملة، ينكشف به معرفة حقائق الأشياء كما هي، ومعرفة ذات الله وصفاته وأفعاله. ويقال له: علم الحقيقة، وعلم الوراثة، ويدل له حديث:
«من عمل بما علم، ورثه الله علم ما لم يعلم».
وقال تعالى:
واتقوا الله ويعلمكم الله [البقرة: 282] وهذا هو المراد بالعلم الظاهر والباطن. ونسبة أحدهما إلى الآخر نسبة الروح والجسد، واللب والقشر.
فالأحاديث والآيات الواردة في شأن العلم وفضيلته تشمل هذه الأقسام كلها، على تفاوت المراتب ودرجاتها. انتهى.
[ ص: 206 ] وأقول:
العلم الظاهر: عبارة عن أحاديث صفات الإسلام، وشعب الإيمان وآياتها.
وعلم الباطن: عبارة عن مدارج الإحسان الوارد في حديث
جبريل عليه السلام.
ولكل واحد من هذين العلمين حد ومطلع، والباطن تابع للظاهر.
فكل علم باطن خالف العلم الظاهر، فلا حجة فيه، وميزان الاعتبار له: عرضه على ظاهر القرآن والحديث، فما وافقهما فهو حق، وما خالفهما فهو باطل، وإن كان من الأكابر؛ لأن الحق أكبر من كل شيء،
ولا حق إلا في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهما أصول الشريعة الصادقة، وعليهما تدور رحى الإسلام والإيمان والإحسان، والله أعلم بالصواب.
عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«العلم ثلاثة»؛ أي: علم أصول الدين الحق، والشريعة الصادقة ثلاثة:
1- «آية محكمة» هذا إشارة إلى كتاب الله.
وإنما خص الآية المحكمة؛ لأنها أم الكتاب، وأصله المحفوظ من الاحتمال والاشتباه، وما سواه من المتشابهات محمول عليها، ويدخل فيه علوم المبادئ؛ كالصرف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، فإن بذلك يظهر إعجاز القرآن.
2- «أو سنة قائمة»؛ أي: ثابتة بحفظ المتون والأسانيد، وعمدتها ما في الصحاح الستة، وعليها مدار الأحكام والمسائل، وفيها كل شيء من العبادة، والمعاملة، والعادة، وما مضى، وما يأتي، وهي مع الكتاب العزيز كافية وافية لمن اعتصم بها في الدين، ولا يحتاج عند
[ ص: 207 ] وجودها وحصولها إلى علم آخر من علوم القوم، خلافا لمن زعم أن الكتاب والسنة لا يفيان بأحكام الحوادث.
وهذا محجوج بالآية المحكمة، وهي قوله سبحانه:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي [المائدة: 3].
وإكمال الدين مشعر بأنه لا يحتاج إلى زيادة عليه من عند غير الله، كائنا من كان، وأينما كان، وفي أي عصر وقطر كان.
وإتمام النعمة مشعر بأن طلب المزيد عليها كفران لها، ونقص فيها، وما أبلغ هذا الدليل؛ إفحاما للقال والقيل، وإلزاما لجيل بعد جيل!!
فإن
من يقول: إن القرآن والحديث لا يفي بأحكام الحوادث، فإنه كالمكذب للقرآن والسنة، ولا أعظم من هذه الجرأة.
3- «أو فريضة عادلة»؛ أي: علم المواريث.
وإنما أفردها بالذكر مع كونها داخلة في الآية المحكمة والسنة القائمة؛ لعلمه -صلى الله عليه وسلم- بأن الأمة تقصر في ذلك، وتضيعها، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة.
وإرادة الإجماع والقياس منها بعيد جدا؛ لأن البحث في إمكان الإجماع، ووقوعه ووجوده كائن.
والقياس، وإن بلغ من الجلاء مبلغا عظيما فإنه لا يكون فريضة أبدا؛ لأن الله تعالى لم يتعبدنا بوجوب التمسك به في شيء من كتابه، ولا رسوله في سنته.
غاية ما في الباب: أنه يجوز استعماله عند الضرورة، ودعاية الحاجة، بشرائطه المعتبرة، لا على الإطلاق.
وغالب الأقيسة من أهل الرأي والاجتهاد يخالف ظواهر الآية المحكمة، والسنة القائمة، كما يظهر من الرجوع إلى كتاب «أعلام الموقعين» للحافظ
ابن القيم -رحمه الله- ومن عرض المجتهدات على الكتاب والسنة، كما يلوح من
[ ص: 208 ] دواوين الإسلام المختصة بفقه السنة المطهرة.
وهذه فتاوى المذاهب الأربعة قد ملأت الدنيا، وطبقت الأرض، وفيها من الأقوال المختلفة والمسائل المبنية على الآراء ما لا يأتي عليها الحصر.
ولا تجد كتابين من كتب الفقه موافقين في جملة الأحكام
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [النساء: 82].
بخلاف كتب السنة المطهرة، فإن بعضها يعانق بعضا، ويشد من عضده، ويصدق بعضها بعضا، كيف وهي مثل القرآن، أو أكثر؟
والحاصل: أن
أصول الدين اثنان: الكتاب، والسنة. لا ثالث لهما، ولا رابع.
وإنما ظن من ظن أنهما لا يفيان بأحكام جميع الحوادث المستقبلية، والحاجة إلى الفقه المصطلح ماسة؛ لقصوره في علم السنة القائمة، والآية المحكمة، وعدم إحاطته بمفاهيم ألفاظها، وعطفها، وعدم القدرة على التمسك بها حجابا من الطبيعة، أو من الرسم، أو من القوم، أو من أهل مذهبه، وأهل بلده وإقليمه، أو سلطانه وولي أمره، ونحو ذلك.
وأما من رزقه الله علما نافعا، وعملا صالحا، فهو يشتغل بها ليله ونهاره، ويقضي بها في كل حادثة، بخصوص أو بعموم الأدلة، كما فعل سلف هذه الأمة وأئمتها، ومن تبعهم بالإحسان.