الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 202 ] مراتب القضاء والقدر في إيجاد العالم

وقد وقع ذلك خمس مرات:

فأولها: أنه أجمع في الأزل أن يوجد العالم على أحسن وجه ممكن، مراعيا للمصالح، مؤثرا لما هو الخير النسبي حين وجوده، وكان علم الله ينتهي إلى تعيين صورة واحدة من الصور، لا يشاركها غيرها، فكانت الحوادث سلسلة مرتبة، مجتمعا وجودها، لا تصدق على كثيرين.

فإرادة إيجاد العالم ممن لا يخفى عليه خافية، هو بعينه تخصيص صورة وجوده إلى آخر ما ينجر إليه الأمر.

وثانيها: أنه قدر المقادير، ويروى أنه كتب مقادير الخلائق كلها، والمعنى واحد، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.

وذلك أنه خلق الخلائق حسب العناية الأزلية في خيال العرش، فصور هنالك جميع الصور، وهو المعبر عنه بالذكر في الشرائع.

فتحقق هنالك مثلا: صورة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعثه إلى الخلق في وقت كذا، وإنذاره لهم، وإنكار أبي لهب، وإحاطة الخطيئة بنفسه في الدنيا، ثم اشتعال النار عليه في الآخرة.

وهذه الصور سبب لحدوث الحوادث على نحو ما كانت هنالك كتأثير الصور المنقشة في أنفسنا في زلق الرجل على الجذع الموضوع فوق الجدران، ولم تكن لتزلق لو كانت على الأرض.

وثالثها: أنه لما خلق آدم -عليه السلام- أبا للبشر، ويبدأ منه نوع الإنسان، أحدث في عالم المثال صور بنيه، ومثل سعادتهم وشقاوتهم بالنور والظلمة، وجعلهم بحيث يكلفون، وخلق فيهم معرفته والإخبات له، وهو أصل الميثاق المدسوس في فطرتهم، فيؤاخذون به، وإن نسوا الواقعة.

إذ النفوس المخلوقة في الأرض إنما هي ظل الصور الموجودة يومئذ، فمدسوس فيها ما دس يومئذ.

[ ص: 203 ] ورابعها: حين نفخ الروح في الجنين.

فكما أن النواة إذا ألقيت في الأرض في وقت مخصوص، وأحاط بها تدبير مخصوص، علم المطلع على خاصية نوع النخل وخاصية تلك الأرض، وذلك الماء والهواء، أنه يحسن نباتها، ويتحقق من شأنها على بعض الأمر.

فكذلك تتلقى الملائكة المدبرة يومئذ، وينكشف عليهم الأمر في عمره ورزقه، وهل يعمل عمل من غلبت ملكيته على بهيميته، أو بالعكس؟ وأي نحو تكون سعادته وشقاوته؟

وخامسها: قبيل حدوث الحادثة، فينزل الأمر من حظيرة القدس إلى الأرض، وينتقل شيء مثالي، فتنبسط أحكامه في الأرض. وقد شاهدت ذلك مرارا.

منها: أن ناسا تشاجروا فيما بينهم وتحاقدوا، فالتجأت إلى الله، فرأيت نقطة مثالية نورانية نزلت من حظيرة القدس إلى الأرض، فجعلت تنبسط شيئا فشيئا، وكلما انبسطت زال الحقد عنهم، فما برحنا المجلس حتى تلاطفوا، ورجع كل واحد منهم إلى ما كان من الألفة، وكان ذلك من عجيب آيات الله عندي.

ومنها: أن بعض أولادي كان مريضا، وكان خاطري مشغولا به، فبينما أنا أصلي الظهر، شاهدت موته نزل، فمات في ليلته.

وقد بينت السنة بيانا واضحا أن الحوادث يخلقها الله تعالى قبل أن تحدث في الأرض خلقا ما، ثم ينزل في هذا العالم، فيظهر فيه كما خلق أول مرة، سنة من الله تعالى.

ثم قد يمحي الثابت، ويثبت المعدوم بحسب هذا الوجود.

[ ص: 204 ] قال تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [الرعد: 39] مثل أن يخلق الله البلاء خلقا ما، فينزله على المبتلى، ويصعد الدعاء فيرده، وقد يخلق الموت، فيصعد البر، ويرده.

والفقه فيه: أن المخلوق النازل سبب من الأسباب العادية؛ كالطعام والشراب بالنسبة إلى بقاء الحياة، وتناول السم والضرب بالسيف بالنسبة إلى الموت.

وقد دل أحاديث كثيرة على ثبوت عالم تتجسم فيه الأعراض، وتنتقل المعاني، ويخلق الشيء قبل ظهوره في الأرض.

مثل كون «الرحم» معلقا بالعرش، ونزول الفتن كمواقع القطر، وخلق «النيل» و«الفرات» في أصل السدرة، ثم إنزالهما إلى الأرض، وإنزال الحديد والأنعام، وإنزال القرآن إلى السماء الدنيا مجموعا، وحضور الجنة والنار بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين جدار المسجد، بحيث يمكن تناول العنقود، ويأتي حر النار، وكتعالج البلاء والدعاء، وخلق ذرية آدم، وخلق العقل، وأنه أقبل وأدبر، وإتيان الزهراوين كأنهما فرقان، ووزن الأعمال، وحفوف الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات، وأمثال ذلك، مما لا يخفى على من له أدنى بصيرة ومعرفة بالسنة.

واعلم أن القدر لا يزاحم سببية الأسباب لمسبباتها؛ لأنه إنما تتعلق بالسلسلة المرتبة جملة، مرة واحدة، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- في الرقى، والدواء، والتقاة: «هل ترد شيئا من قدر الله؟ قال: هي من قدر الله» وقول عمر في قصة سرغ: أليس إن رعيتها في الخصب رعيتها بقدر الله؟ إلخ.

وللعباد اختيار أفعالهم، نعم لا اختيار لهم في ذلك الاختيار؛ لكونه معلولا بحضور صورة المطلوب ونفعه، ونهوض داعية وعزم، مما ليس له علم بها، فكيف الاختيار فيها؟ وهو قوله: «إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف شاء». والله أعلم، انتهى كلام الحجة.

التالي السابق


الخدمات العلمية