[ ص: 380 ] باب في رد بدعات الرسوم
قال تعالى:
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون .
قال بعض العلماء:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشد الناس إلى العمل بالقرآن، ويهديهم إليه، ويقول لهم: اتركوا رسوم الشرك والبدع الرائجة فيكم.
فيقولون: لو اتبعنا هذا القرآن، لذهب منا اتباع أسلافنا، بل نسلك مسلك الآباء في الإتيان بالرسوم والمواسم; لأن هذا الطريق لو كان قبيحا، لما سلكه أكابرنا.
فأنزل الله هذه الآية، ورد فيها عليهم، وسفههم، وسجل عليهم بالحماقة، بأن لو كان آباؤهم جاهلين، لا يشعرون شيئا، ولا يفهمون قولا، أفهؤلاء يسلكون مسلكهم والحال هذه، مع أنهم لا يختارون سبل الآباء في أمور دنياهم فيما فيه نقصانهم، كما أن أبا أحد لو اتجر البن فلم يربح فيه، لا يؤثر ولده هذه التجارة قطعا، علما منه بأن فيها ضررا، وكذا لو وقع والد أحد في البئر لا يقع ولده فيه أبدا، ظنا منه أن في هذا هلاكه.
فيا لله العجب من هذا القوم كيف يتبع الآباء في أمور الدين، ولا يتبعهم في أمور الدنيا، مع أن أمر الدين أهم وأعظم وأحرى بالتحقيق والتدقيق، وأمر الدنيا هين لين، لا يعود بضرر في الإيمان، إن لم يقع كما أراد.
فلا أدري ما هذا الإسلام ؟ يتركون الرسوم التي جاء بها الرسول، وأمر بها الله تعالى، ويختارون رسوم الآباء والأجداد!
[ ص: 381 ] فهل رسوم الأسلاف أحق بالاتباع، أم شرائع الله ورسوله ؟ انتهى.
فهذه الآية دليل على رد الرسوم المبتدعة، والمواسم المحدثة، والأمور الموضوعة التي راجت في الناس، وجاءت من أسلافهم السفهاء، كما تدل على
رد التقليد فيها، وقد تقدم تفسيرها في محلها من الكتاب.
ومثل هذه الآية قوله تعالى:
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا الآية.
يعني: من التحليل والتحريم. وفي ذلك دليل على قبح التقليد، والمنع منه، والبحث في ذلك يطول.
وقال تعالى:
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون .
فيه: أنه ما من قرية إلا وقد أرسل إليها نذير، أنذر أهلها، لكنهم لم يقبلوا نذارته، وردوا عليه بقولهم: إنا مقتدون بآثار آبائنا.
وكان هذا الجواب من جهة أهل الترف، وذلك يشير إلى أن التقليد والاقتداء بالأسلاف شيمة أهل الغنى والثروة، وهو الذين يتمسكون بالآثار الآبائية، والرسوم الماضية.
ومثل قوله سبحانه:
بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون .
اعترفوا بأنه لا مستند لهم من حيث العيان، ولا من حيث العقل، ولا من حيث السمع والبيان، سوى هذا الاقتداء المذموم، والتقليد المشؤوم.
قلت: وهذا الحال قد وجد في كل زمان، وفي هذا العصر هو في ازدياد عظيم.
ألا ترى الأمراء أصحاب الرفاهية والترف، كيف جمعوا عندهم آثار الصلحاء
[ ص: 382 ] من الأنبياء وغيرهم، وعظموها غاية التعظيم ؟.
ومنهم من يدعي أن عنده أثر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم على الحجارة.
ومنهم من يقول: لديه شعر من شعوره صلى الله عليه وسلم، أو خيط من خيوط
nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة - عليها السلام -، أو جبة من ملابس الكبير الفلاني، أو قلنسوة من قلانس الشيخ الفلاني، ونحو ذلك مما يكثر تعداده.
فديانتهم هي تكريم هذه الآثار، وأمانتهم هي الاقتداء في ذلك بالآباء الكبار، دون اتباع الكتاب الذي أنزله الله، والسنة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ، فيه إقرار منهم بالكفر على أنفسهم، بإنكار ما أرسل به الرسل.
وهذه بعينها مقالة المقلدة من هذه الأمة، فإنهم إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله، وإلى ما جاء به رسوله، قالوا: إنا وجدنا أئمتنا على أمة وإنا لأقوالهم وفتاواهم مقلدون، وأنكروا الآيات والأحاديث المدونة في مصاحف الإيمان وصحائف الإسلام، وأقروا على أنفسهم بإنكارها مع إقرار التقليد.
والتقليد لا يتصور إلا إذا اقتدى أحد أثر أحد من الآباء والأسلاف، وترك كلام الله، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم على طاق النسيان.
فكل من وجد فيه هذا الوصف، فقد صدقت هذه الآية عليه صدقا، طابق فيه النعل بالنعل، ووافق عليه القذة بالقذة، سواء كان هذا القائل من عشيرة الفقهاء وأهل الرأي، أو من قبائل المتكلمين والمتصوفين وغيرهم، ممن ينسب إلى الإسلام.
فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين . فيه وعيد شديد وتهديد عظيم لأهل البدع من أرباب الرسوم وأصحاب التقليد المشؤوم; لأن هذه الآية الشريفة، وإن كانت حكاية عمن كان قبلنا، فهي عامة في جميع الأمم وسائر الفرق الإسلامية; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال في "فتح البيان" : وذلك الانتقام ما أوقعه الله بقوم
"نوح" ، و "عاد" ،
[ ص: 383 ] و "ثمود" بما استحقوه على إصرارهم على التقليد. انتهى.
والحاصل: أن عاقبة الرسوم وأهلها، هي عاقبة أولئك الناس إذا فعلوا مثل فعلهم، أو قالوا مثل قولهم.
وقال تعالى:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ; أي: في دين الله; أي: إنه يخاصم في شأن الله وصفاته وآياته، وسنن رسوله أيضا، وهم أهل البدع والأهواء، وأصحاب الرسوم المرسومة، وأرباب المخاصمة، والتقليدات للأئمة والآباء.
والآية دليل على أن هؤلاء جدليون متكلمون متفيقهون، لكن لا بعلم لهم حتى يخرجوه بل بحيل، فمجادلتهم هذه سفاهة منهم واضحة.
ويتبع كل شيطان مريد [الحج: 3]; أي: متمرد متجرد للفساد. والمراد: إما إبليس وجنوده، أو رؤساء الشرك والبدع، الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر.
وقد عمت البلوى من المبتدعة في هذا الزمان، فكل بدعي يرفع رأسه في قرية، أو قصبة، أو بلدة، يدعو غيره إلى بدعها، ويضم إليه كل عبد لله، فمن وقع في شركه، فقد هلك، ومن نجا منه، فقد فاز.
ودعوتهم هذه تعم اللسان والبنان، ونعوذ بالله من الخذلان.
كتب عليه ; أي: على الشيطان
أنه من تولاه ، أي: اتخذه وليا واتبعه
فأنه يضله عن طريق الحق والصدق الموصلة إلى الجنان،
ويهديه إلى عذاب السعير [الحج: 4]; أي: يحمله على مباشرة ما يصير به في العذاب.
وفي الآية زجر عن اتباع خطوات الشيطان، وهي الرسوم التي يفعلها أهل البدع، والفسوق والعصيان.
والآيات في هذا الباب كثيرة طيبة جدا، وقد تقدم شطر صالح منها في هذا الكتاب في مواضع عديدة، من بيان رد التقليد وغيره.
[ ص: 384 ] وإذا تقرر أن القرآن ينعى على أهل الرسوم ويذمهم بالإجمال المغني عن التفصيل.
فقد قال في: "رد الإشراك" : إن ما عض الناس عليه من الرسوم بنواجذهم كثيرة. فلنذكر طرفا منها:
فمنها: ما أكب الناس عليه من استماع الغناء، وضرب المزامير على القبور، وفي الأعراس، ومجالس اللهو ومحافل اللعب، حتى إن منهم من يظنه عبادة.