وأشار إلى المحترز من قيد المعلوم، بقوله: (ولا يجوز على صرة من الدراهم) أي: يشترط في القراض أن يكون رأس مال معلوما للمالك والعامل لدى العقد، فلو قارض على صورة مجهولة القدر من الدراهم لم يجز; (لأن قدر الربح لا يتبين فيها) فجهل رأس المال يؤدي إلى جهل الربح، وهذا بخلاف رأس مال السلم، فإنه يجوز أن يكون مجهولا على أحد القولين; لأن السلم لا يعقد للفسخ .
وأشار إلى المحترز من قيد المسلم، بقوله: (ولو شرط المالك اليد لنفسه لم يجز) أي: يشترط في القرض أن يكون رأس المال مسلما إلى العامل، ويكون العامل مستقلا باليد عليه، والتصرف فيه، فلا يجوز أن يشترط المالك أن يكون رأس مال القراض عنده، وهو يوفي الثمن منه، إذا اشترى العامل شيئا، أو شرط أن يراجعه العامل في التصرفات، أو يراجع مشرفا أشرفه عليه المالك، فإن شرط هذه الشروط فسد القرض; (لأنه يضيق طريق التجارة) لأنه قد لا يجد المالك والمشرف لدى الحاجة، أو لا يساعده على رأيه فيضيق الأمر على العامل، والقراض شرع لتمهيد طرق التجارة وتوسيعها .
ولو شرط أن يعمل معه غلام المالك جاز على أصح الوجهين، وقيل: قولين; لأن العبد ماله يدخل تحت اليد، ولمالكه إعارته، وإجارته، فإذا ضمه إلى العامل فقد جعله معينا وخادما له، فتصرفه يقع للعامل تبعا لتصرفه. والثاني: لأن يده يد سيده فكما لو شرط عمل نفسه في [ ص: 468 ] موضع الخلاف، ما إذا لم يصرح بحجر العامل، فأما إذا شرط أن يعمل معه غلامه، ولا يتصرف هو دونه، أو يكون بعض المال في يده والبعض في يد الغلام، فذلك فاسد لا محالة، وإذا كان ما شرط عمل الغلام ولكن شرط أن يكون الربح أثلاثا فهو جائز، فكأنه شرط أن يكون الثلثان له، والثلث للعامل، نص عليه في المختصر .
(فصل)
قال أصحابنا: ويدفع المال إلى المضارب، ولا بد له من ذلك; لأن المضاربة فيها معنى الإجارة; لأن ما يأخذه مقابل بعمله، والمال محل العمل فيجب تسليمه كالإجارة الحقيقية; ولأن المال أمانة في يده، فلا يتم إلا بالتسليم كالوديعة، وهذا بخلاف الشركة، حيث لا يشترط فيها تسليم المال إلى الآخر; لأن الشركة انعقدت على العمل منهما فشرط يدرب المال فيها، يخرج العقد من أن يكون شركة، ولا كذلك المضاربة; لأن المال فيها من أحد الجانبين، والعمل من الآخر، فلا بد من تسليم المال إلى العامل، وتخليصه له; ليتمكن من العمل، والتصرف فيه، وشرط العمل على رب المال ينافي ذلك، فلا يجوز، سواء كان المالك عاقدا، أو غير عاقد، كالصغير، والمعتوه; لأن يدهما على مالهما بجهة الملك كالكبير، فبقاء يدهما يمنع كونه مسلما إلى المضارب .
وكذا أحد الشريكين إذا دفع المال مضاربة، فشرط أن يعمل شريكه مع المضارب; لأن للشريك فيه ملكا فيمنع يده من تسليمه إلى المضارب .
وإن لم يكن العاقد مالكا، أو شرط أن يتصرف في المال مع المضارب، فإن كان العاقد ليس بأهل المضاربة في ذلك المال تفسد، كالمأذون يدفع ماله مضاربة ويشترط عمله مع المضارب; لأن التصرف فيه إليه، واليد ثابتة له في هذا المال، ويده يد نفسه، فصار كالمالك فيما يرجع إلى التصرف، كالأب، والوصي، فكان قيام يده مانعا لصحة المضاربة .
وإن كان العاقد ممن يجوز أن يأخذ مال المضاربة به لم تفسد المضاربة، كالأب والوصي إذا دفعا مال الصغير مضاربة، وشرطا أن يعملا بأنفسهما مع الضارب بجزء من الربح، فهو جائز; لأنه لو أخذ ماله مضاربة ليعملا بأنفسهما بالنصف صح، فكذا إذا شرطا عملهما مع المضارب بجزء من الربح; لأن كل مال يجوز أن يكون المرء فيه مضاربا وحده جائز أن يكون فيه مضاربا مع غيره، وهذا لأن تصرف الأب والوصي واقع للصغير حكما بطريق النيابة، فصار دفعه كدفع الصغير، وشرطه كشرطه، فتشترط التخلية من قبل الصغير; لأنه هو رب المال، وقد تحققت .
وإن دفع العبد المأذون ماله مضاربة وشرط عمل مولاه مع المضارب ينظر، فإن لم يكن عليه دين فالمضاربة جائزة عند أبي حنيفة; لأنه لا حق للمولى فيه، فصار كالأجنبي، والمكاتب، إذا دفع ماله مضاربة وشرط عمل مولاه معه، لا يفسد مطلقا; لأنه لا يملك ما في يده فصار كالأجنبي سواء كان عليه دين، أو لم يكن، والله أعلم .