الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
كتاب آداب الكسب ، والمعاش .

وهو الكتاب الثالث من ربع العادات من كتاب إحياء علوم الدين .

بسم الله الرحمن الرحيم .

نحمد الله حمد موحد انمحق في توحيده ما سوى الواحد الحق وتلاشى .

ونمجده تمجيد من يصرح بأن كل شيء ما سوى الله باطل ولا يتحاشى .

وأن كل من في السماوات والأرض لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ولا فراشا .

ونشكره إذ رفع السماء لعباده سقفا مبنيا ومهد الأرض بساطا لهم وفراشا .

وكور الليل على النهار فجعل الليل لباسا والنهار معاشا .

لينتشروا في ابتغاء فضله وينتعشوا به عن ضراعة الحاجات انتعاشا ونصلي على رسوله الذي يصدر المؤمنون عن حوضه رواء بعد ورودهم عليه عطاشا .

وعلى آله وأصحابه الذين لم يدعوا في نصرة دينه تشمرا وانكماشا .

وسلم تسليما كثيرا .

أما بعد : فإن رب الأرباب ومسبب الأسباب .

جعل الآخرة دار الثواب والعقاب والدنيا دار التمحل والاضطراب والتشمر والاكتساب .

وليس التشمر في الدنيا مقصورا على المعاد دون المعاش ، بل المعاش ذريعة إلى المعاد ، ومعين عليه ، فالدنيا مزرعة الآخرة ومدرجة إليها .

والناس ثلاثة رجل : شغله معاشه عن معاده فهو من الفائزين والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث ، الذي شغله معاشه لمعاده فهو من المقتصدين ولن ينال رتبة الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السداد ولن ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة ما لم يتأدب في طلبها بآداب الشريعة، وها نحن نورد آداب التجارات والصناعات وضروب الاكتسابات وسننها ونشرحها في خمسة أبواب :

الباب الأول : فضل الكسب والحث عليه .

الباب الثاني : في علم صحيح البيع ، والشراء ، والمعاملات .

الباب الثالث : في بيان العدل في المعاملة .

الباب الرابع : في بيان الإحسان فيها .

الباب الخامس : في شفقة التاجر على نفسه ودينه .

التالي السابق


(بسم الله الرحمن الرحيم) وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، الحمد لله الذي جعل الغدو والرواح للتكسب مدارا للمعاش، وأقام السعي فيه عدة ينتهض بها المتعيش، كما ينتهض الطائر بالأجنحة والأرياش، ثم فضله على الفراغ والبطالة والانزواء والانكماش، أحمده سبحانه على ما أنعم، ومن جملة النعم: أن أرشد إلى طريق الكسب، وأصلح به أمور المعاد، وأراش، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة تؤنس الوحيد في غربته، عن الاستيحاش، وأشهد أن محمدا عبده، ورسوله، وحبيبه، وخليله، الذي كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولم يكن بلعان ولا فحاش، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاة تامة كاملة، تنير سدف الرحبات، وتضيء ظلم الأغباش، وسلم تسليما كثيرا، ما حيي محب بذكره، وعاش .

أما بعد: فهذا شرح * (كتاب آداب الكسب، والمعاش) * وهو الثالث من الربع الثاني، من كتاب الإحياء لرباني هذه الأمة، خير الأنام، حجة الإسلام، وعلم الأئمة الأعلام، أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، سقى الله جدثه صوب الغفران المتوالي، يزيل عن مشكلاته الخفايا، ويحقق لمطالعه قول من قال: * كم في الزوايا من خبايا، * شمرت ذيل الجهد في تحقيقه، مع قصر الباع، ومكانفة عوائق الزمان، الموجبة لقلة الاتساع، حتى تكدرت المعايش، وضاقت المناكب، وكسدت الأسباب، * وأحاطت صورة الجسم الكلية، أنواع الأمراض، وضروب الأوصاب، * فاعذر أيها المحب لحالي، العاطل الخالي، * فقد شاهدت من المكدرات ما لم يكن ببالي، * وإلى المولى المجيب، بمصنف هذا الكتاب أتوسل، وبجاهه إليه أتوصل، وبالله أكتفي، وعلى فضله وألطافه الخفية أعتمد، وأتوكل، إنه على فرجي قدير، وهو نعم المولى، ونعم النصير، * .

فأقول: ابتدأ المصنف رحمه الله تعالى كتابه هذا، كباقي كتبه، بذكر الله تعالى، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) تيمنا، واقتداء، وتبركا، واقتفاء، ثم أعقبه بالحمد، فقال: (الحمد لله) وفي [ ص: 412 ] بعض النسخ: نحمد الله، جمعا بين الذكرين، وعملا بالحديثين (حمد موحد) قد وحده عن صميم اعتقاده، وربط حاجته على تفريده في حالتي إصداره وإيراده (امحق) بتشديد الميم، أصله: انمحق، فأدغمت النون في الميم، والانمحاق: ذهاب الشيء بكليته، بقوة، وسطوة (في توحيده) أي: في اعتقاده في تفريده (ما سوى الواحد الحق) في الحقيقة، وهو كل ما يوصف بالغيرية (وتلاشى) أي: صار كلا شيء، بأن لم تخطر بينه وبين سواه نسبة بوجه، لا فرضا، ولا وهما (ومجده) أي: عظمه (تمجيد) أي: تعظيم (من يصرح) بلسان تجليه في عباراته، وإشاراته، وحركاته، وسكناته، ولا يكني (بأن ما سوى الله) المعبود الحق (باطل) أي: لا ثبات له عند الفحص عنه (ولا يتحاشى) أي: لا يبالي بتصريحه لذلك المعتقد; إذ هو الحق الذي لا محيد عنه، وقد أشار بذلك إلى قول لبيد، الذي سماه -صلى الله عليه وسلم-، أصدق كلمة: *

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

* .


وسبب بطلان ما سوى الله: حدوثه وتغيره من حال إلى آخر، وما كان بهذه المثابة فلا ثبات له أصلا، ولا قيام له بنفسه (وإن من في السموات والأرض) من ملك، وجن، وإنس، وغيرهم (لن يخلقوا) أي: لن يوجدوا (ذبابا) مع حقارته (ولو اجتمعوا له) وأعان بعضهم بعضا (ولا فراشا) وهو كسحاب، ما يتطاير من الهوام حوالي ضوء الشمع، والسراج .

(وأشكره إذ رفع السماء لعباده) فجعله (سقفا مبينا) أي: هيئة السقف المنير، مثل القبة المحيطة بجوانب الأرض (ومهد) لهم (الأرض) تمهيد السكون (بساطا لهم وفراشا) إذ صيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة، حتى صارت متهيئة لأن يقعدوا ويناموا عليها، كالفراش المبسوط، وبين تلاشى ويتحاشى لزوم ما لا يلزم، وبين فراشا وفراشا جناس (وكور الليل على النهار) أي: أداره، وضم بعضه إلى بعض النهار، ككور العمامة (فجعل الليل لباسا) غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء (وجعل النهار معاشا) أي: وقتا للمعاش يتقلبون فيه لتحصيل ما يتعيشون به (لينتشروا) أي: ينبعثوا فيه (في ابتغاء فضله) أي: ما قسم من الرزق (وينتعشوا في ضراعة الحاجات) أي: إلجائها بذل (انتعاشا) أي: ينتهضوا في عشرتها، انتهاضا، وقد نعش،وانتعش، قام، ونعشه الله، وأنعشه: أقامه، وبين معاشا وانتعاشا لزوم ما لا يلزم، مع ما في كل من الجمل المذكورة، من الاقتباسات الشريفة، من الآيات المنيفة، وبراعة الاستهلال، وغير ذلك من أنواع البديع .

(ونصلي على رسوله) سيدنا محمد (الذي يصدر) بضم التحتية، وكسر الدال، وهو فعل يتعدى لاثنين (المؤمنين) مفعوله الأول، والإصدار نقيض الإيراد، والمعنى: يصرفهم (عن حوضه) الأصغر، وهو الكوثر، الذي وعده الله سبحانه، له -صلى الله عليه وسلم- (رواء) بالكسر، والمد، مفعوله الثاني، أي: مرتوين (بعد ورودهم عليه) أي: على الحوض (عطاشا) من هول الموقف، وحر الشمس، والزحام، فيردون بعد حسابهم، وقد ذبلت شفاههم، وتدلت ألسنتهم، ويبست جلودهم، فيشربون من ذلك الحوض، حتى يجري الري في أظفارهم، ثم يؤمر بهم إلى الجنة (وعلى آله وأصحابه الذين لم يدعوا) أي: لم يتركوا (في نصرة دينه) القويم (تشمرا) أي: أخذا بالسرعة، والمبالغة (وانكماشا) وهو بمعناه، وكلاهما كناية عن الاجتهاد البالغ، وبذل الوسع (وسلم) عليه، وعليهم (كثيرا) كثيرا .

(أما بعد: فإن رب الأرباب) أي: سيد السادات (ومسبب الأسباب) أي: مهيئها، والمؤقت لها (جل جلاله) أي: عظم، وفيه جناس الاشتقاق (جعل) الدار (الآخرة) أي: صيرها (دار الثواب) لمن أحسن (و) دار (العقاب) لمن أساء (و) جعل (الدنيا دار التحمل) للمشقات، وضروب المكدرات (والاضطراب) في الأرض لتحصيل المعايش (والاكتساب، وليس التشمر) عن ذيل الجد (في الدنيا مقصورا على المعاد دون المعاش، بل المعاش) عند النظر الصحيح والتأمل الصريح (ذريعة) أي: وسيلة (إلى المعاد، ومعين عليه، فالدنيا) في الحقيقة (مزرعة للآخرة) أي: صالحة لأن يزرع فيها، ليتخذ منه زاد الآخرة (ومدرجة إليها) أي: يتدرج بها إليها، بحسن مسيره في سلوكه عليها، والجملة الأولى، أعني قوله: الدنيا مزرعة للآخرة، المشهور: أنه حديث، وليس كذلك، وزعم المناوي في ترجمة المصنف، من طبقاته، أن هذا الكلام من مبتكرات المصنف، وفيه نظر، فقد وجد ذلك في كلام غيره ممن هو قبله، والمعنى صحيح .

[ ص: 413 ] ففي المقفى للعقيلي، ومكارم الأخلاق لابن لال، والرامهرمزي في الأمثال، من حديث طارق بن أشيم، رفعه: نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته. الحديث. وهو عند الحاكم، وصحيح، لكن تعقبه الذهبي بأنه منكر، قال: وعبد الجبار، أعني راويه لا يعرف، وفي الحلية لأبي نعيم، في ترجمة سعيد بن عبد العزيز، من قوله، مما رواه عقبة بن علقمة، عنه: الدنيا غنيمة الآخرة. ومما يشهد للجملة الثانية من سياق المصنف، وهو قوله: ومدرجة إليها. ما في الفردوس، بلا سند، عن ابن عمر، مرفوعا: الدنيا قنطرة الآخرة، فاعبروها، ولا تعمروها.

وقال الراغب في كتاب الذريعة: الإنسان من وجه في دنياه حارث، وعمله حرثه، ودنياه محرثه، ووقت الموت وقت حصاده، والآخرة يبذر، فلا يحصد إلا ما زرعه، ولا يكيل إلا ما حصده، فمن عمل لآخرته بورك في كيله، وجعل منه زاد الأبد، ومن عمل لدنياه خاب سعيه، وبطل عمله، وإليه أشار المصنف بقوله:

(والناس ثلاثة: فرجل شغله معاده عن معاشه) فلم يلتفت إلى الدنيا، وكان جل عمله السعي في أمور الآخرة (فهو من الفائزين) كما قال تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها الآية. وهذه رتبة الأنبياء والمرسلين، ومن على قدمهم من الصديقين، والشهداء، والصالحين (ورجل شغله معاشه عن معاده) فإن ركن إلى الدنيا، وانغمس في شهواتها، وأخلد إلى ملاذها، ونسي ما خلق لأجله (فهو من الهالكين) الخاسرين، إلى أبد الآبدين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ، الآية. وهذه رتبة الكفار، ومن شابههم، ومثل أعمال الدنيا مثل شجر الخلاف، بل كالدفلى، والحنظل، في الربيع يرى غض الأوراق، حتى إذا جاء حين الحصاد، لم ينل طائلا، وإن أحضر مجناه البيدر لم يفد نائلا، ومثل أعمال الآخرة، مثل شجرة الكرم، والنخل، المستقبح المنظر في الشتاء، وإذا حان وقت القطاف والاجتناء، أفادك زادا، وادخرت منه عدة وعتادا (والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث، الذي شغله معاشه لمعاده) أي: لأجل معاده (فهو من المقتصدين) أي: المتوسطين بين المرتبتين، وهي رتبة أهل الصلاح من المؤمنين، وقد أشار إلى هذا الترتيب صاحب القوت، وفي ربيع الأبرار للزمخشري: قوام الدين والدنيا بالعلم، والكسب، فمن رفضهما وقال أبتغي الزهد لا العلم، والتوكل لا الكسب، وقع في الجهل والطمع (ولن ينال) العبد (رتبة الاقتصاد ما لم يلازم في طلب المعيشة منهج السداد) أي: طريق الصواب في القول، والعمل (ولن ينتهض طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة) ومدرجة إليها (وذريعة) في التوصل بها (ما لم يتأدب في طلبها بأدب الشريعة) والتوفيق للعمل به .

(وها نحن نورد أبواب التجارات والصناعات) المختلفة (وضروب الاكتساب) أي: أنواعه، مما يتحصل به المعاش (وسننها) الشرعية، مما ذكره علماء الملة المحمدية (ونشرح ذلك في خمسة أبواب: الباب الأول: في فضل الكسب والحث عليه) وما فيه من الأخبار والآثار (الباب الثاني: في علم صحيح البيع، والشراء، والمعاملات) وما يتعلق بها في الربا، والسلم، والإجارة، والشركة، والقراض، وما لكل ذلك من الشروط (الباب الثالث: في بيان العدل في المعاملة) واجتناب الظلم فيها (الباب الرابع: في بيان الإحسان فيه) وفي بعض النسخ: فيها، أي: المعاملة (الباب الخامس: في) بيان (شفقة التاجر على دينه) فيما يخصه ويعم آخرته .




الخدمات العلمية