بيان حال القلب بالإضافة إلى أقسام العلوم العقلية والدينية والدنيوية والأخروية .
اعلم أن القلب بغريزته مستعد لقبول حقائق المعلومات كما سبق ولكن العلوم التي تحل فيه تنقسم إلى عقلية وإلى شرعية ، والعقلية تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة .
والمكتسبة إلى دنيوية وأخروية .
أما العقلية فنعني بها ما تقضي بها غريزة العقل ولا توجد بالتقليد والسماع وهي تنقسم إلى : ضرورية لا يدرى من أين حصلت وكيف حصلت ، كعلم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما موجودا معدوما معا فإن هذه علوم يجد الإنسان نفسه منذ الصبا مفطورا عليها ولا يدري متى حصل له هذا العلم ولا من أين حصل له أعني أنه لا يدري له سببا قريبا ، وإلا فليس يخفى عليه أن الله هو الذي خلقه وهداه وإلى علوم مكتسبة وهي المستفادة بالتعلم والاستدلال وكلا القسمين قد يسمى عقلا .
قال nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه رأيت
العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع
" والثاني : هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=showalam&ids=8لعلي رضي الله عنه : " إذا تقرب الناس إلى الله تعالى بأنواع البر فتقرب أنت بعقلك.
" إذ لا يمكن التقرب بالغريزة الفطرية ولا بالعلوم الضرورية بل بالمكتسبة ، ولكن مثل علي رضي الله عنه هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من رب العالمين فالقلب جار مجرى العين ، وغريزة العقل فيه جارية مجرى قوة البصر في العين ، وقوة الإبصار لطيفة تفقد في العمى ، وتوجد في البصر وإن كان قد غمض عينيه أو جن عليه الليل ، والعلم الحاصل منه في القلب جار مجرى قوة إدراك البصر في العين ورؤيته لأعيان الأشياء وتأخر العلوم عن عين العقل في مدة الصبا إلى أوان التمييز أو البلوغ يضاهي تأخر الرؤية عن البصر إلى أوان إشراق الشمس وفيضان نورها على المبصرات ، والقلم الذي سطر الله به العلوم على صفحات القلوب يجري مجرى قرص الشمس ، وإنما لم يحصل العلم في قلب الصبي قبل التمييز ؛ لأن لوح قلبه لم يتهيأ بعد لقبول نفس العلم والقلم عبارة عن خلق من خلق الله تعالى جعله سببا لحصول نقش العلوم في قلوب البشر ؛ قال الله تعالى : الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وقلم الله تعالى لا يشبه قلم خلقه كما لا يشبه وصفه وصف خلقه ؛ فليس قلمه من قصب ولا خشب كما أنه تعالى ليس من جوهر ولا عرض فالموازنة بين البصيرة الباطنة والبصر الظاهر صحيحة من هذه الوجوه ، إلا أنه لا مناسبة بينهما في الشرف فإن البصيرة الباطنة هي عين النفس التي هي اللطيفة المدركة وهي كالفارس والبدن كالفرس ، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس ، بل لا نسبة لأحد الضررين إلى الآخر .
أما العلوم الدينية فهي المأخوذة بطريق التقليد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وذلك يحصل بالتعلم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم معانيهما بعد السماع ، وبه كمال صفة القلب وسلامته عن الأدواء والأمراض فالعلوم العقلية غير كافية في سلامة القلب ، وإن كان محتاجا إليها كما أن العقل غير كاف في استدامة صحة أسباب البدن ، بل يحتاج إلى معرفة خواص الأدوية والعقاقير بطريق التعلم من الأطباء ، ؛ إذ مجرد العقل لا يهتدي إليه ولكن لا يمكن فهمه بعد سماعه إلا بالعقل فلا غنى بالعقل عن السماع ، ولا غنى بالسماع عن العقل ، فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل ، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور فإياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعا بين الأصلين فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية والشخص المريض يستضر بالغذاء متى فاته الدواء ، فكذلك أمراض القلوب لا يمكن علاجها إلا بالأدوية المستفادة من الشريعة ، وهي وظائف العبادات والأعمال التي ركبها الأنبياء صلوات الله عليهم لإصلاح القلوب فمن لا يداوي قلبه المريض بمعالجات العبادة الشرعية واكتفى بالعلوم العقلية استضر بها كما يستضر المريض بالغذاء وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه ، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض ، فيعجز عن الجمع بينهما ، فيظن أنه تناقض في الدين فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين وإنما ذلك ؛ لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقضا في الدين وهيهات وإنما مثاله مثال الأعمى الذي دخل دار قوم فتعثر فيها بأواني الدار فقال لهم : ما بال هذه الأواني تركت على الطريق لم لا ترد إلى مواضعها فقالوا ؟ له : تلك الأواني في مواضعها وإنما أنت لست تهتدي للطريق لعماك ، فالعجب منك أنك لا تحيل عثرتك على عماك وإنما تحيلها على تقصير غيرك فهذه نسبة العلوم الدينية إلى العلوم العقلية .
والعلوم العقلية تنقسم إلى دنيوية وأخروية .
فالدنيوية كعلم الطب والحساب والهندسة والنجوم وسائر الحرف والصناعات .
والأخروية كعلم أحوال القلب وآفات الأعمال والعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله كما فصلناه في كتاب العلم وهما علمان متنافيان أعني أن من صرف عنايته إلى أحدهما حتى تعمق فيه قصرت بصيرته عن الآخر على الأكثر ولذلك ضرب nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه للدنيا والآخرة ثلاثة أمثلة فقال هما ككفتي الميزان وكالمشرق والمغرب وكالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى .
ولذلك ترى الأكياس في أمور الدنيا وفي علم الطب والحساب والهندسة والفلسفة جهالا في أمور الآخرة والأكياس في دقائق علوم الآخرة جهالا في أكثر علوم الدنيا لأن قوة العقل لا تفي بالأمرين جميعا في الغالب ، فيكون أحدهما مانعا من الكمال في الثاني ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم إن : " أكثر أهل الجنة البله " أي : البله في أمور الدنيا .
وقال الحسن في بعض مواعظه لقد أدركنا أقواما لو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو أدركوكم لقالوا شياطين فمهما سمعت أمرا غريبا من أمور الدين جحده أهل الكياسة في سائر العلوم فلا يغرنك جحودهم عن قبوله إذ من المحال أن يظفر سالك طريق المشرق بما يوجد في المغرب فكذلك يجري أمر الدنيا والآخرة ؛ ولذلك قال تعالى : إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها الآية . وقال تعالى : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون وقال عز وجل : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم فالجمع بين كمال الاستبصار في مصالح الدنيا والدين لا يكاد يتيسر إلا لمن رسخه الله لتدبير عباده في معاشهم ومعادهم وهم الأنبياء المؤيدون بروح القدس المستمدون من القوة الإلهية التي تتسع لجميع الأمور ولا تضيق عنها فأما . قلوب سائر الخلق فإنها إذا استقلت بأمر الدنيا انصرفت عن الآخرة ، وقصرت عن الاستكمال فيها .
(بيان حال القلب بالإضافة إلى أقسام العلوم العقلية والدينية والدنيوية والأخروية) :
(اعلم أن القلب بغريزته) أي: بطبيعته الفطرية (مستعد لقبول حقائق المعلومات كما سبق) تقريره آنفا ، (ولكن العلوم التي تحل فيه تنقسم إلى عقلية وشرعية ، والعقلية تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة ، والمكتسبة تنقسم إلى دنيوية وأخروية؛ أما العقلية فنعني بها ما تقضي به غريزة العقل ولا يؤخذ بالتقليد والسماع وهي تنقسم إلى: ضرورية لا يدرى من أين تحصل ولا كيف حصلت ، كعلم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين و) أن (الشيء الواحد لا يكون حادثا قديما) ولا يكون (موجودا معدوما معا)
[ ص: 241 ] أي في حالة واحدة ، وكذلك القول الواحد لا يكون صدقا وكذبا إذا ثبت للشيء جوازه ثبت لمثله ، وإن الأخص إذا كان موجودا كان الأعم واجب الوجود ، فإذا وجد السواد فقد وجد اللون ، وإذا وجد إنسان فقد وجد حيوان ، وأما عكسه فلا يلزم في العقل؛ إذ لا يلزم من وجود اللون وجود السواد، ولا من وجود الحيوان وجود الإنسان إلى غير ذلك من القضايا الضرورية .
(فإن هذه العلوم يجد الإنسان نفسه منذ الصبا) أي: من مبتدأ حال عبادته (مفطورا عليها) أي: مخلوقا معها (ولا يدري متى حصل له هذا العلم ولا من أين حصل) وإنما هو شيء قد عرفه بداهة (أعني أنه لا يدري فيه سببا قريبا، وإلا فليس يخفى أنه الله تعالى هو الذي خلقه وإلى مكتسبة وهي المستفادة بالتعلم والاستدلال) ففيها ما لا يقارن العقل في كل حال إذا عرض عليه، بل يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستوري زناده وينبه عليه بالتنبيه كالنظريات (وكلا القسمين قد يسمى عقلا) ويسمى الأول بالعقل الفطري والبديهي والمطبوع والضروري ، والثاني بالعقل المكتسب والمسموع والمستفاد والنظري .
(قال nindex.php?page=showalam&ids=8علي كرم الله وجهه) فيما نسب إليه:
( العقل عقلان * مطبوع ومسموع وما ينفع مسموع * إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس * وضوء العين ممنوع )
(والثاني: هو المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم- nindex.php?page=showalam&ids=8لعلي كرم الله وجهه: " إذا تقرب الناس إلى الله بأنواع البر فتقرب أنت بعقلك") رواه nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم في الحلية من حديث nindex.php?page=showalam&ids=8علي بإسناد ضعيف، وقد تقدم في العلم (إذ لا يمكن التقرب بالغريزة الفطرية ولا بالعلوم الضرورية بل بالمكتسبة ، ولكن مثل علي) رضي الله عنه (هو الذي يقدر على التقرب) إلى الله تعالى (باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من رب العالمين) فما كل علم يقرب إلى الله (والقلب جار مجرى العين ، وغريزة العقل جارية مجرى قوة البصر في العين، وقوة الإبصار لطيفة تفقد بالعمى، وتوجد في البصير إن كان قد غمض عينيه أو جن عليه الليل ، والعلم الحاصل فيه جار مجرى إدراك البصر ورؤيته لأعيان الأشياء) اعلم أن نور البصر موسوم بأنواع من النقصان ، فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه ولا يبصر ما بعد منه ، ولا ما قرب ، ولا يبصر ما هو وراء حجاب ، ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها ، ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها ، ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له ، ويغلط كثيرا في العبارة فيرى الكبير صغيرا، ويرى البعيد قريبا، والساكن متحركا، والمتحرك ساكنا ، فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة ، وإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها ، فاعلم أن في الإنسان عينا هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنساني ، فهو أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع ، (وتأخر العلوم عن عين العقل في مدة الصبا إلى أوان التمييز أو البلوغ يضاهي تأخر الرؤية عن البصر إلى أوان إشراق الشمس وفيضان نورها على المبصرات، والقلم الذي به سطر العلوم على صفحات القلوب يجري مجرى قرص الشمس ، وإنما لم يحصل العلم بقلب الصبي قبل أوان التمييز؛ لأن لوح قلبه لم يتهيأ بعد لقبول نقش العلم) ولكن الاستعداد موجود (والقلم عبارة عن خلق من خلائق الله تعالى جعله سببا لحصول نقش العلوم في قلوب البشر؛ قال الله تعالى: علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=11970وابن أبي حاتم عن nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة قال: القلم نعمة عظيمة ، لولا القلم لم يقم دين ، ولم يصلح عيش. وقال: علم الإنسان ما لم يعلم أي الخط (وقلم الله لا يشبه قلم خلقه كما أن
[ ص: 242 ] وصفه لا يشبه وصف خلقه؛ فليس قلبه من قصب ولا خشب كما أنه ليس ذاته من جوهر ولا عرض) وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم ، فأخذه بيمينه ، وكلتا يديه يمين ، وخلق النون وهي الدواة ، وخلق اللوح فكتب فيه ، ثم خلق السماوات ، فكتب ما يكون من حينئذ في الدنيا إلى أن تكون الساعة ؛ من خلق مخلوق أو عمل معمول بر وفجور ، وكل رزق حلال أو حرام رطب أو يابس، (فالموازنة بين البصيرة الباطنة والبصر الظاهر صحيحة من هذه الوجوه ، إلا أنه لا مناسبة بينهما في الشرف) فإن البصر الظاهر موسوم بأنواع من النقصان وهي السبع التي تقدم ذكرها قريبا ، والبصيرة الباطنة منزهة عنها ، وأيضا (فإن البصيرة الباطنة) هي عبارة عن (عين النفس التي هي اللطيفة المذكورة) وهي التي يعبر عنها بالعقل وبالروح كما تقدم ، (وهي كالفارس والبدن كالفرس ، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس ، بل لا نسبة لأحد الضررين إلى الآخر ، ولموازنة بصيرة الباطن للبصر الظاهر سماه الله تعالى باسمه فقال: ما كذب الفؤاد ما رأى ثم إدراك الفؤاد رؤية وكذلك قوله: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وما أراد به الرؤية الظاهرة) وهي البصيرة ؛ (فإن ذلك غير مخصوص بإبراهيم صلوات الله عليه) وسلامه (حتى يذكر في معرض الامتنان) وإنما المراد به الرؤية القلبية (ولذلك سمي ضد إدراكه عمى فقال تعالى: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال) تعالى: ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) وعمى البصيرة هو الحجب عن انكشاف جلية الحق (فهذا بيان العلم العقلي ، أما العلوم الدينية فهي المأخوذة) المستفادة (بطريق التقليد من الأنبياء صلوات الله عليهم) وسلامه (وذلك يحصل بالتعلم لكتاب الله) عز وجل (وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفهم معانيهما) على قدر الاستعداد (بعد السماع ، وبه كمال صفات القلب) إذ به يحصل التنوير والجلاء (وبه سلامته عن الأدواء) جمع داء (والأمراض) عطف تفسير أو مرادف (فالعلوم العقلية غير كافية في سلامة القلب ، وإن كان) القلب ( محتاجا إليها كما أن العقل غير كاف في استدامة أسباب صحة البدن، بل يحتاج إلى معرفة خواص الأدوية والعقاقير) جمع عقار وهو النبات ، وكأنه أراد بالأدوية المركبة وبالعقاقير المفردة (بطريق التعلم من الأطباء ، لا بالمطالعة في الكتب؛ إذ مجرد العقل لا يهدي إليه) كما أن مجرد المطالعة لا يكفي، (ولكن لا يمكن فهمه بعد سماعه) وتلقيه (إلا بالعقل فلا غنى بالعقل عن السمع، ولا بالسمع عن العقل ، فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور) ، بيانه أن العقول وإن كانت مبصرة ، فليست المبصرات كلها عندها على مرتبة واحدة ، بل بعضها يكون عندها كأنها حاضرة كالعلوم الضرورية ، وبعضها مما يحتاج إلى نظر واستدلال وتنبيه ، وإنما ينبهه كلام الحكمة ، فعند إشراق نور الحكمة يصير العقل مبصرا بالفعل بعد أن كان مبصرا بالقوة ، وأعظم الحكم كلام الله تعالى وكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فتكون منزلتهما عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة ، إذ به يتم الإبصار ، فأحرى أن يسمى القرآن والسنة نورا، كما يسمى نور الشمس نورا؛ ولذلك قال المصنف عن أنوار القرآن والسنة: (فإياك أن تكون من الفريقين) المفرط والمفرط (وكن جامعا بين الأصلين) العقل والنقل؛ (فإن العلوم العقلية كالأغذية) أي: بمنزلتها في احتياج استدامة صحة البدن إليها (والعلوم الشرعية كالأدوية) أي: بمنزلتها في احتياج استدامة صحة البدن إليها (والشخص المريض يتضرر
[ ص: 243 ] بالغذاء مهما فاته الدواء ، فكذلك أمراض القلب لا يمكن علاجها إلا بأدوية مستفادة من الشريعة ، وهي لطائف العبادات والأعمال التي ركبها الأنبياء صلوات الله عليهم) وسلامه (لإصلاح القلوب) وهي بمنزلة الأدوية الظاهرة التي يركبها الأطباء لإصلاح الأبدان (فمن لا يداوي قلبه المريض) المملوء بأوجاع المعاصي ورياح الشهوات (بمعالجات العبادات الشرعية) المركبة على أحسن قانون (واكتفى بالعلوم العقلية استضر بها كما يستضر المريض بالغذاء) فلا تتم له الصحة مطلقا ، ويمكن تقرير السياق بوجه آخر أقرب مما قرره المصنف ، فنقول: المعقولات تجري مجرى الأدوية الجالبة للصحة ، والشرعيات تجري مجرى الأغذية للصحة ، وكما أن الجسم متى كان مريضا لم ينتفع بالأغذية، بل يستضر بها ، كذلك متى كان مريض النفس كما قال تعالى: في قلوبهم مرض لم ينتفع بسماع القرآن الذي هو موضوع الشرعيات ، بل صار ذلك ضارا له مضرة الغذاء للمريض ، فتشبيه الشرعيات بالأغذية التي لا يستغني عنها بدن الإنسان أولى من تشبيهها بالأدوية التي لا يحتاج إليها في كل وقت ، والقصد تعذر إدراك العلوم النبوية على من لم يتهذب في الأمور العقلية ، وأيضا فالقلب بمنزلة مزرعة المعتقدات، والاعتقاد فيه بمنزلة البذر إن خيرا وإن شرا ، وكلام الله تعالى بمنزلة الماء الذي يسقيه ، فكما أن الماء إذا سقى الأرض يختلف نباته بحسب بذوره ، فكذا القرآن إذا ورد على الاعتقادات الراسخة في القلوب تختلف تأثيراته ، وإليه الإشارة بقوله تعالى: وفي الأرض قطع متجاورات الآية ، وقوله تعالى: والبلد الطيب يخرج نباته الآية. وأيضا فالجهل بالمعقولات جار مجرى ستر مرخى من البصر وغشاء على القلب ووقر في الأذن، والقرآن لا يدرك خفياته إلا من كشف غطاؤه ورفع غشاؤه وأزيل وقره ؛ ولهذا قال تعالى: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وأيضا فالمعقولات كالحياة التي بها الأبصار والأسماع ، والقرآن كالمدرك بالسمع والبصر ، وكما أنه من المحال أن يسمع ويبصر الميت قبل أن يجعل الله فيه الروح ويجعل له السمع والبصر ، كذلك من المحال أن يدرك من لم يحصل المعقولات حقائق الشرعيات .
(وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية) ومصادمة لها (وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر من عمى في عين البصيرة) وهو أشد من العمى في عين البصر ، (نعوذ بالله من ذلك ، بل ربما هذا القائل) أي: المجوز لذلك (ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية للبعض ، فيعجز عن الجمع بينهما، فيظن أنه تناقض في الدين فيتحير به) تحير الضب إذا ضل عن جحره ، (وينسل عن) ربقة (الدين انسلال الشعرة من العجين) وهو لا يدري كيف انفصل؛ (وإنما ذلك؛ لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقضا في الدين) ومصادمة في علومه (وهيهات وإنما مثاله الأعمى الذي دخل دارا فتعثر فيها بأواني الدار) أي: زلت قدمه بها (فقال: ما بال هذه الأواني تركت على الطريق) أي: على الممر؟ (لم لا ترد إلى مواضعها؟ فقيل له: تلك الأواني) موضوعة (في مواضعها) اللائقة بها (وإنما أنت لست تهتدي إلى الطريق لعماك ، فالعجب منك أنك لا تحيل عثرتك) أي: زلة قدمك (على عماك وتحيله على تقصير غيرك فهذه نسبة العلوم الدينية إلى) العلوم (العقلية .
والعلوم العقلية تنقسم إلى دنيوية وأخروية ، فالدنيوية كالطب والحساب والهندسة والنجوم وسائر الحرف والصناعات) فإن ثمراتها منوطة بالدنيا ولا تعلق له بالآخرة إلا من وجوه بعيدة (والأخروية كعلم أحوال القلب وآفات الأعمال والعلم بالله وصفاته وأفعاله) ويندرج في ذلك علم المباني الخمس وغير ذلك (كما فصلناه في كتاب العلم وهما علمان متنافيان) أي: علم الدنيا ينافي علم الآخرة ، وعلم الآخرة ينافي علم الدنيا ، ثم ذكر وجه المنافاة بقوله: (أعني أن من صرف عنايته) وبذل همته (إلى) تحصيل (أحدهما حتى تعمق فيه) أي: دخل في عمقه ، وهو كناية عن نهاية الاشتغال به (قصرت بصيرته عن الآخر) فلا يمكنه أن يهتدي إليه، وهذا (على الأكثر) فيما
[ ص: 244 ] جرب ؛ (ولذلك ضرب nindex.php?page=showalam&ids=8علي كرم الله وجهه للدنيا والآخرة أمثلة ثلاثة فقال هما ككفتي الميزان) إن رجحت إحداهما خفت الأخرى (وكالمشرق والمغرب) وإليه أشار القائل:
سارت مشرقة وسرت مغربا * شتان بين مشرق ومغرب
(وكالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى) ولم يبق بعد هذه الأمثلة الثلاثة مثال يليق لهما فسائر ما قيل فيهما من الأمثلة راجع إلى هذه الثلاثة وهذه الأمثلة الثلاثة ذكرها الشريف الموسوي في نهج البلاغة ، ونقله الراغب في الذريعة (ولذلك ترى الأكياس في أمور الدنيا) الفطنين فيها (وفي) علومها مثل (علم الطب والهندسة والحساب والفلسفة جهالا في أمور الآخرة) وما أقبح هذا (و) ترى الأكياس (في دقائق علوم الآخرة جهالا في الأكثر) أي: في الأغلب (بعلوم الدنيا) وما أحسن هذا ، وذلك (لأن قوة العقل لا تفي بالأمرين جميعا في الغالب ، فيكون أحدهما مانعا من الكمال في الثاني ، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- : " أكثر أهل الجنة البله ") بضم فسكون جمع الأبله (أي: البله في أمور الدنيا) قد أغفلوها فجهلوا حذق التصرف فيها ، وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهلها ، وقيل: هم الغافلون عن الشر المطبوعون على الخير ، أو الذين خلوا عن الدهاء والمكر ، وغلبت عليهم سلامة الصدر وهم عقلاء. قال الزبرقان: خير أولادنا الأبله المغفول. قال العراقي : رواه nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس وضعفه، وصححه nindex.php?page=showalam&ids=11963القرطبي في التذكرة ، وليس كذلك فقد قال nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي: إنه منكر اهـ .
قلت: وسبقه nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي فقال ما نصه: حديث لا يصح. قال ابن عدي: حديث منكر. وقال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني: تفرد به سلامة عن عقيل وهو ضعيف اهـ . كلام nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي .
وقال الهيثمي في سلامة بن روح وثقه nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان وغيره ، وضعفه أحمد بن صالح وغيره .
(وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (أدركنا أقواما لو رأيتموهم لقلتم) : إنهم (مجانين) أي: لغفلتهم عن أمور الدنيا ، (ولو رأوكم لقالوا) : إنكم (شياطين) أي: لما فيكم من الدهاء والمكر والخداع في تحصيل المعايش ، وهذا الكلام نقله صاحب القوت ، وسيأتي تمامه في آخر كتاب الزهد ، والمراد بأولئك الأقوام أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلية التابعين (فمهما سمعت أمرا غريبا من أمور الدين) قد (جحده أهل الكياسة في سائر العلوم) وظنوه مناقضا (فلا يغرنك جحودهم عن قبوله) فلكل عمل رجال ، (إذ من المحال أن يسفر سالك طريق الشرق بما يوجد في الغرب) فإنما أورثهم ذلك الجحود جهلهم بعلوم الدين ، (وكذلك يجري أمر الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال) الله (تعالى: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها الآية. وقال تعالى: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون وقال تعالى: فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم فالجمع بين كمال الاستبصار في مصالح الدين والدنيا لا يكاد يتيسر) ويسهل (إلا لمن رشحه الله) وهيأه بالخلافة العظمى (لتدبير عباده في معاشهم ومعادهم وهم الأنبياء) عليهم السلام (المؤيدون بروح القدس المستمدون من القوة الإلهية) تفاض عليهم (التي تتسع لجميع الأمور) الدنيوية والأخروية على الكمال ، (ولا تضيق عنها. وأما قلوب سائر الخلق فإنها إذ شغلت بأمر انصرفت عن الآخر ، وقصرت عن الاستكمال فيه) ولكن لنوابهم وورثتهم في ذلك نصيب، ومراتبهم في ذلك مختلفة باختلاف الأشخاص والأحوال .