وهو الكتاب السادس من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها ، وكشف لهم عن عيوبها ، وعوراتها حتى نظروا في شواهدها ، وآياتها ووزنوا بحسناتها سيئاتها ، فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها ولا يفي مرجوها بمخوفها ولا يسلم طلوعها من كسوفها ولكنها في صورة امرأة مليحة تستميل الناس بجمالها ولها أسرار سوء قبائح تهلك الراغبين في وصالها ثم هي فرارة عن طلابها شحيحة بإقبالها وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها إن أحسنت ساعة أساءت سنة وإن أساءت مرة جعلتها سنة فدوائر إقبالها على التقارب دائرة وتجارة بنيها خاسرة بائرة وآفاتها على التوالي لصدور طلابها راشقة ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة فكل مغرور بها إلى الذل مصيره وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره ، شأنها الهرب من طالبها والطلب لهاربها ومن خدمها فاتته ، ومن أعرض عنها واتته لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات ولا ينفك سرورها عن المنغصات سلامتها تعقب السقم وشبابها يسوق إلى الهرم ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم ، فهي خداعة مكارة طيارة فرارة لا تزال تتزين لطلابها حتى إذا صاروا من أحبابها كشرت لهم عن أنيابها وشوشت عليهم مناظم أسبابها وكشفت لهم عن مكنون عجائبها ، فأذاقتهم قواتل سمامها ورشقتهم بصوائب سهامها بينما أصحابها منها في سرور وإنعام إذ ، ولت عنها كأنها أضغاث أحلام ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طحن الحصيد ووارتهم في أكفانهم تحت الصعيد إن ملكت واحدا منهم جميع ما طلعت عليه الشمس جعلته حصيدا كأن لم يغن بالأمس تمني ، أصحابها سرورا ، وتعدهم غرورا حتى يأملون كثيرا ، ويبنون قصورا فتصبح قصورهم قبورا وجمعهم بورا وسعيهم هباء منثورا ودعاؤهم ثبورا هذهصفتها وكان أمر الله قدرا مقدورا والصلاة والسلام على محمد عبده ، ورسوله المرسل إلى العالمين بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا وعلى من كان من أهله ، وأصحابه له في الدين ظهيرا وعلى الظالمين نصيرا وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد ، فإن الدنيا عدوة لله ، وعدوة لأولياء الله ، وعدوة لأعداء الله ، أما عداوتها لله ، فإنها قطعت الطريق على عباد الله ولذلك لم ينظر الله إليها منذ خلقها وأما عداوتها لأولياء الله عز وجل فإنه ، تزينت لهم بزينتها ، وعمتهم بزهرتها ، ونضارتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها وأما عداوتها لأعداء الله ، فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها فاقتنصتهم ، بشبكتها حتى وثقوا بها وعولوا عليها ، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها ، فاجتنوا منها حسرة تتقطع دونها الأكباد ، ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد فهم على فراقها يتحسرون ومن مكايدها يستغيثون ، ولا يغاثون بل يقال لهم اخسؤوا : فيها ، ولا تكلمون ، أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، فلا يخفف عنهم العذاب ، ولا هم ينصرون .
وإذا عظمت غوائل الدنيا ، وشرورها ، فلا بد أولا من معرفة حقيقة الدنيا ، وما هي ، وما الحكمة في خلقها مع عداوتها ، وما مدخل غرورها ، وشرورها ، فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ، ويوشك أن يقع فيه ونحن نذكر ذم الدنيا ، وأمثلتها ، وحقيقتها ، وتفصيل معانيها ، وأصناف الأشغال المتعلقة بها ، ووجه الحاجة إلى أصولها ، وسبب انصراف الخلق عن الله بسبب التشاغل بفضولها إن شاء الله تعالى ، وهو المعين على ما يرتضيه .
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليما
الحمد لله الذي أصعد قوالب الأصفياء بالمجاهدات، وأسعد قلوب الأولياء بالمشاهدات، وخلص أشباح المتقين من ظلم الشهوات، وأخلص أرواح الموقنين عن ظلم الشبهات، أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة، وشاهد شواهد فردانيته القاهرة، فانكشفت له عجائب المقدورات، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله، واغترف من بحر جوده وأفضاله، فخوطب بأسرار المنازلات، وأشهد أن لا إله إلا الله إلها واحدا، وربا قادرا، فاطر الأرضين والسموات، شهادة تؤذن بإخلاص الضمائر والطويات، وتنير مطالع أنوارها غياهب الشكوك، وسدف الدجنات .
وأشهد أن سيدنا، ومولانا محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، المبعوث إلى كافة البريات بالآيات الباهرات، المنعوت بأشرف الخلال الزاكيات، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الأئمة الهداة، وأصحابه الفضلاء الثقات، وعلى أتباعهم بإحسان ما هبت في الأسحار النسمات وسلم كثيرا كثيرا .
(وبعد)
فهذا شرح (كتاب ذم الدنيا) ، وهو السادس من الربع الثالث من كتاب الإحياء للإمام الرباني nindex.php?page=showalam&ids=14847حجة الإسلام الغزالي أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، نفع الله بأسرار علومه، وأفاض علينا من إفاضات أنوار فهومه، حللت فيه عقدة ألفاظه الغريبة، ورفعت من جوه معانيها حجب الخفاء والريبة، مع تتبع تخريج ما أورد فيه من الأخبار، والآثار، وما نقل من أقوال الصالحين، ومن أحوال الأخبار على وجه غير مخل ولا ممل، إن لم يصبه وابل فطل، مستعينا بالله في سائر الأمور، سائلا منه الإمداد، وشرح الصدور، فنعم المولى، ونعم النصير، وهو على كل شيء قدير .
قال المصنف - رحمه الله تعالى -:
(بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا) ، أي: دواهيها، [ ص: 78 ] قاله الكسائي، وقيل: الغائلة: الفساد والشر، (وآفاتها، وكشف لهم عن عيوبها، وعوراتها) أصل العورة: السوأة; سميت بها لقبح انكشافها، والنظر إليها، وكل شيء يستره الإنسان أنفة، وحياء، فهو عورة، (حتى نظروا في شواهدها، وآياتها) الدالة عليها (ووزنوا بحسناتها سيئاتها، فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها) المنكر ما أنكره العقل والشرع، والمعروف ضده، (ولا يفي) من الوفاء (مرجوها بخوفها) ، أي: مخوفها يزيد على مرجوها (ولا يسلم طلوعها من كسوفها) ، أي: من تغيرها وزوالها، (ولكنها في صورة امرأة مليحة) الصورة (تستميل الناس) ، أي: تصرفهم إليها (بجمالها) ، أي: زينتها; أشار بذلك إلى ما ذكر صاحب القوت: إنه قد كوشف بها بعض الأولياء في صورة امرأة، ورأى أكف الخلق ممدودة إليها، وهي تجعل في أيديهم شيئا، قال: وطائفة تمر عليها مكتوفي الأيدي لا ينظرون إليها، فلا تعطيهم شيئا .
(ولها أسرار قبائح تلك الراغبين في وصالها) ، أي: مواصلتها (ثم هي فرارة) ، أي: كثيرة الفرار والشرود (عن طلابها) جمع طالب، (شحيحة بإقبالها) ، أي: بخيلة به إن هي أقبلت على أحد منهم لم تعطه من إقبالها شيئا (وإذا أقبلت لم يؤمن شرها) ، أي: ضررها، ونكايتها (ووبالها) ، أي: وخمها وسوء عاقبتها (إن أحسنت) إلى أحد (ساعة) من الدهر (أساءت سنة) ، وهي عند العرب أربعة أزمنة، (وإن أساءت مرة) واحدة (جعلتها) ، أي: الإساءة (سنة) متبعة لا تنثني عنها، (فدوائر إقبالها على التقارب دائرة) ، أي: تدور دوائرها بالهلاك متقاربة، (وتجارة بنيها) ، أي: أولادها (خاسرة) غير رابحة (بائرة) من البوار، وهو الهلاك (وآفاتها على التوالي) ، أي: على تعاقب الزمن (بصدور طلابها راشقة) كما ترشق السهام بالأغراض (ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة) ، أي: مصرحة بلسان حالها .
(فكل متعزز بها إلى الذل مصيره) ، أي: مرجعه وعاقبته، (وكل متكثر بها إلى التحسر) ، أي: التلهف (مسيره، شأنها الهرب من طالبها) ، أي: تفر ممن يطلبها (والطلب لهاربها) ، أي: تطلب من هرب عنها، وولاها بظهره .
(من خدمها) ، وفي نسخة: من قصدها (فاتته، ومن أعرض عنها واتته) ، أي: وافقته (لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات) ، والشوائب هي الأدناس والأقذار، واحدها شائبة، قاله الجوهري، (ولا ينفك سرورها عن المنغصات) ، أي: المكدرات .
(سلامتها تعقب السقم) ، أي: المرض (وشبابها يسوق إلى الهرم) ، أي: الضعف والكبر (ونسيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم، فهي خداعة) كثيرة الخداع، (مكارة) كثيرة المكر، (طيارة) كثيرة الطيران، (فرارة) كثيرة الفرار، فهي كما قال بعضهم، وأجاد: إن جلت أوجلت، أو حلت أوحلت، أو كست أوكست .
(لا تزال تتزين لطلابها) بأنواع الزين، (حتى إذا ركنوا) إليها و (صاروا من أحبابها كشرت لهم عن أنيابها) ، أي: أفصحت لهم بالعداوة والشر، كما أن الكلب إذا هر على أحد كشر عن أنيابه، أي: أظهر (وشوشت) ، أي: غبرت وخلطت (عليهم مناظم أسبابها) ، أي: الأسباب المنظومة في سلك الاعتدال، (وكشفت لهم عن مكنون عجائبها، فأذاقتهم قواتل سمامها) جمع سم، (ورشقتهم بصوائب سهامها) ، أي: رمتهم بسهامها الصائبة التي لا تكاد تخطئ .
(بينما أصحابها منها في سرور وإنعام، إذا ولت عنهم) ، أي: أدبرت (كأنها أضغاث أحلام) كناية عن الشيء كأنه لم يكن، (ثم كرت) ، أي: رجعت (عليهم بدواهيها) ، أي: شدائدها (فطحنتهم طحن الحصيد) ، أي: الزرع المحصود (ووارتهم) ، أي: سترتهم (في أكفانهم تحت الصعيد) ، أي: وجه الأرض .
(إن ملكت واحدا جميع ما طلعت عليه الشمس جعلته حصيدا) ، أي: محصودا، ومكسرا (كان لم يغن بالأمس، تمني أصحابها سرورا، وتعدهم غرورا) ، أي: تغرهم في وعدها (حتى يؤملون كثيرا، ويبنون قصورا) ، أي: أبنية مرتفعة (فتصبح قصورهم قبورا) ، أي: تؤول إليها (وجمعهم بورا) ، أي: هلاكا (وسعيهم هباء) ما يرى في ضوء الشمس [ ص: 79 ] (منثورا) ، أي: مبددا (وكان أمر الله قدرا مقدورا) ، وهذا السياق منتزع من خطبة nindex.php?page=showalam&ids=8لعلي - رضي الله عنه - ذكرها صاحب نهج البلاغة، وسيأتي ذكر بعضها، (والصلاة على) سيدنا (محمد عبده، ورسوله المرسل إلى العالمين) ، أي: كافة الخلق أجمعين (بشيرا) لأهل الإيمان بالجنان (ونذيرا) ، أي: منذرا لأهل الكفر بالنيران (وعلى من كان من آله، وأصحابه في الدين ظهيرا) ، أي: معينا في إقامته (وعلى الظالمين) الذي ظلموا أنفسهم بالكفر والنفاق (نصيرا) ، أي: ناصرا، (وسلم) تسليما (كثيرا، أما بعد، فإن الدنيا عدوة لله، وعدوة لأولياء الله، وعدوة لأعداء الله، أما عداوتها لله، فإنها قطعت الطريق على عباد الله) السالكين إليه؛ (ولذلك) ، أي: لأجل عداوتها لله (لم ينظر الله إليها) نظر عناية (منذ خلقها) كما ورد ذلك في الخبر، وسيأتي بيانه .
(وأما عداوتها لأولياء الله، فإنها تزينت لهم بزينتها، وعمتهم) ، أي: شملتهم (بزهرتها، ونضارتها) ، وهي متاعها، وزينتها (حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها) ، وقطعوا النظر من زينتها .
(وأما عداوتها لأعداء الله، فإنها استدرجتهم) ، أي: أخذتهم درجة درجة (بمكرها، ومكيدتها، واقتنصتهم) ، أي: صادتهم (بشبكتها) ، وهي محركة: آلة الصيد (حتى وثقوا بها) ، أي: اطمأنوا بها (وعولوا) ، أي: اعتمدوا (عليها، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها، فاجتنوا منها حسرة تنقطع دونها الأكباد، ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد) ، أي: إلى آخر الدهر (فهم على فراقها يتحسرون) ، أي: يتلهفون (ومن مكايدها يستغيثون، ولا يغاثون) ، أي: ولا ينصرون (بل يقال لهم: اخسؤوا) ، أي: ذلوا (فيها، ولا تكلمون، أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلا يخفف عنهم العذاب، ولا هم ينصرون) ، وهذا مقتبس من كلام nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز.
فيما أخرجه صاحب الحلية أنه كتب إلى عامله nindex.php?page=showalam&ids=16556عدي بن أرطاة: أما بعد، فإن الدنيا عدوة أولياء الله، وعدوة أعدائه; فأما أولياء الله، فغمتهم، وأما أعداء الله فغوتهم .
(وإذا عظمت غوائل الدنيا، وشرورها، فلا بد أولا من معرفة حقيقة الدنيا، وما هي، وما الحكمة في خلقها مع عداوتها، وما مدخل غرورها، وشرورها، فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه، ويوشك أن يقع فيه) ، وهو لا يشعر .
(ونحن نذكر ذم الدنيا، وأمثلتها، وحقيقتها، وتفصيل معانيها، وأصناف الأشغال المتعلقة بها، ووجه الحاجة إلى أصولها، وسبب انصراف الخلق عن الله بسبب التشاغل بفضولها إن شاء الله تعالى، وهو المعين على ما يرتضيه) .