إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وروي أن عيسى عليه السلام اشتد عليه المطر والرعد والبرق يوما ، فجعل يطلب شيئا يلجأ إليه فوقعت عينه على خيمة من بعيد ، فأتاها ، فإذا فيها امرأة ، فحاد عنها فإذا هو بكهف في جبل فأتاه ، فإذا فيه أسد ، فوضع يده عليه ، وقال : إلهي جعلت لكل شيء مأوى ولم تجعل لي مأوى ، فأوحى الله تعالى إليه : مأواك في مستقر رحمتي ، لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراء ، خلقتها بيدي ، ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام ، يوم منها كعمر الدنيا ، ولآمرن مناديا ينادي : أين الزهاد في الدنيا ? زوروا عرس الزاهد في الدنيا عيسى ابن مريم وقال عيسى ابن مريم عليه السلام : ويل لصاحب الدنيا ! كيف يموت ويتركها وما فيها وتغره ? ويأمنها ؟ ويثق بها وتخذله وويل ؟ للمغترين ! كيف أرتهم ما يكرهون ? وفارقهم ما يحبون ? وجاءهم ما يوعدون وويل ؟ لمن الدنيا همه ، والخطايا عمله كيف يفتضح غدا بذنبه وقيل : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : يا موسى مالك ، ولدار الظالمين ? إنها ليست لك بدار ، أخرج منها همك ، وفارقها بعقلك ; فبئست الدار هي ، إلا لعامل يعمل فيها ، فنعمت الدار هي يا موسى ، إني مرصد للظالم حتى آخذ منه للمظلوم وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح فجاءه بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف ، فتعرضوا له ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، ثم قال : أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء ، قالوا : أجل يا رسول الله ، قال : فأبشروا ، وأملوا ما يسركم ; فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم ، أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم ، كما أهلكتهم .

وقال أبو سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض ، فقيل : ما بركات الأرض قال : زهرة الدنيا .

وقال صلى الله عليه وسلم : لا تشغلوا قلوبكم بذكر الدنيا .

فنهى عن ذكرها ، فضلا عن إصابة عينها وقال عمار بن سعيد مر عيسى عليه السلام بقرية ، فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق ، فقال : يا معشر الحواريين ، إن هؤلاء ماتوا عن سخطة ، ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا فقالوا : يا روح الله ، وددنا أن لو علمنا خبرهم ، فسأل الله تعالى ، فأوحى إليه : إذا كان الليل فنادهم يجيبوك ، فلما كان الليل أشرف على نشز ثم نادى : يا أهل القرية ، فأجابه مجيب : لبيك يا روح الله ، فقال : ما حالكم ، وما قصتكم ، قال : بتنا في عافية ، وأصبحنا في الهاوية قال : وكيف ذاك ؟ قال بحبنا : الدنيا ، وطاعتنا أهل المعاصي ، قال : وكيف كان حبكم للدنيا ? قال : حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرحنا بها ، وإذا أدبرت حزنا وبكينا ، عليها ، قال : فما بال أصحابك لم يجيبوني ? قال : لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد ، قال : فكيف أجبتني أنت من بينهم ? قال : لأني كنت فيهم ، ولم أكن منهم ، فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم ، فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أنجوا منها أم أكبكب فيها ? فقال المسيح للحواريين : لأكل خبز الشعير بالملح الجريش ، ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة وقال أنس كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق فجاء أعرابي بناقة له فسبقها ، فشق ذلك على المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم : إنه حق على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه وقال عيسى عليه السلام : من الذي يبني على موج البحر دارا ، تلكم الدنيا ، فلا .

تتخذوها قرارا وقيل لعيسى عليه السلام : علمنا علما واحدا يحبنا الله عليه ، قال أبغضوا : الدنيا يحبكم الله تعالى وقال أبو الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، ولهانت عليكم الدنيا ، ولآثرتم الآخرة ثم قال أبو الدرداء من قبل نفسه : لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون على أنفسكم ولتركتم أموالكم لا حارس لها ، ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه ، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة ، وحضرها الأمل ، فصارت الدنيا أملك بأعمالكم ، وصرتم كالذين لا يعلمون ، فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها مخافة مما في عاقبته ما لكم لا تحابون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين الله ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم ، ما لكم تناصحون في أمر الدنيا ، ولا تناصحون في أمر الآخرة ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ، ويعينه على أمر آخرته ، ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم ، لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها ، كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة ; لأنها أملك لأموركم ، فإن قلتم : حب العاجلة غالب ، فإنا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للآجل منها تكدون أنفسكم بالمشقة والاحتراف في طلب أمر لعلكم لا تدركونه ; فبئس القوم أنتم ! ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم ، فإن كنتم في شك مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فائتونا لنبين لكم ، ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم ، والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم ، فنعذركم إنكم تستبينون صواب الرأي في دنياكم ، وتأخذون بالحزم في أموركم ، ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا ; تصيبونه ، وتحزنون على اليسير منها يفوتكم ، حتى يتبين ذلك في وجوهكم ، ويظهر على ألسنتكم ، وتسمونها المصائب ، وتقيمون فيها المآتم وعامتكم قد تركوا كثيرا من دينهم ، ثم لا يتبين ذلك في وجوهكم ، ولا يتغير حالكم ، إني لأرى الله قد تبرأ منكم ، يلقى بعضكم بعضا بالسرور ، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فاصطحبتم على الغل ونبتت مراعيكم على الدمن وتصافيتم على رفض الأجل ، ولوددت أن الله تعالى أراحني منكم وألحقني بمن أحب رؤيته ولو كان حيا لم يصابركم فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيرا وبالله أستعين على نفسي ، وعليكم .


(وروي أن عيسى - عليه السلام - اشتد عليه المطر والرعد والبرق يوما، فجعل يطلب شيئا يلجأ إليه فرفعت له خيمة) ، وفي نسخة: فوقعت عينه على خيمة (من بعيد، فأتاها، فإذا فيها امرأة، فحاد عنها) ، أي: مال (فإذا هو بكهف في جبل، فإذا فيه أسد، فوضع يده عليه، وقال: إلهي لكل شيء مأوى) أي: موضع يأوي إليه (ولم تجعل لي مأوى، فأوحى الله إليه: مأواك في مستقر رحمتي، لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراء، خلقتها بيدي، ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام، يوم منها كعمر الدنيا، ولآمرن مناديا ينادي: أين الزهاد في الدنيا؟ زوروا عرس الزاهد عيسى بن مريم) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا .

(وقال عيسى - عليه السلام -: ويل لصاحب الدنيا! كيف يموت ويتركها؟ ويأمنها وتغره؟ ويثق بها وتخذله؟ ويل للمغترين! كيف أرتهم ما يكرهون؟ وفارقهم ما يحبون؟ وجاءهم ما يوعدون؟ ويل لمن الدنيا همه، والخطايا عمله كيف يفتضح غدا بذنبه) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا .

(وقيل: أوحى الله إلى موسى - عليه السلام -: يا موسى، ما لك ولدار الظالمين؟ إنها ليست لك بدار، أخرج منها همك، وفارقها بعقلك; فبئست الدار هي، إلا لعامل يعمل فيها، فنعمت الدار هي يا موسى، إني مرصد للظالم حتى آخذ منه للمظلوم) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا .

(وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة) عامر (بن الجراح) أحد العشرة - رضي الله عنهم - (فجاءه بمال من البحرين) ناحية بالبصرة (فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة) بالمال (فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف، فتعرضوا له، فتبسم صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: فأبشروا، وأملوا ما يسركم; فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) متفق عليه من حديث عمرو بن عوف البدري.

(وقال أبو سعيد الخدري) - رضي الله عنه -: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض، فقيل: ما بركات الأرض؟ فقال: زهرة الدنيا) متفق عليه .

(وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشغلوا قلوبكم بذكر الدنيا) ; لأن الله يغار على قلب عبده أن يشتغل بغيره .

رواه ابن أبي الدنيا، ومن طريقه البيهقي في الشعب من رواية محمد بن النضر الحارثي مرسلا (فنهى عن ذكرها، فضلا عن إصابة عينها) ، ففيه تشديد .

(وقال عمار بن سعيد) كذا في النسخ، ولم أجد له ترجمة .

(مر عيسى - عليه السلام - بقرية، فإذا أهلها موتى في الأفنية) جمع فناء بالكسر، وفناء الدار ما حولها (والطرق، فقال لهم: يا معشر الحواريين، إن هؤلاء ماتوا عن سخطة، ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا) ، أي: لدفن بعضهم بعضا (فقالوا: يا روح الله، وددنا أنا علمنا خبرهم، فسأل ربه، [ ص: 88 ] فأوحى الله إليه: إذا كان الليل فنادهم يجيبونك، فلما كان الليل أشرف) ، أي: صعد (على نشز) محركة، أي: موضع عال (ثم نادى: يا أهل الغربة، فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله، فقال: ما حالكم، وما قصتكم، قال: بتنا في العافية، وأصبحنا في الهاوية) ، وهي دركة من دركات جهنم (قال: وكيف ذلك؟ قال: لحبنا الدنيا، وطاعتنا أهل المعاصي، قال: وكيف كان حبكم للدنيا؟ قال: حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرح بها، وإذا أدبرت بكى، وحزن عليها، قال: فما بال أصحابك لا يجيبوني؟ قال: لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد، قال: فكيف أجبتني أنت من بينهم؟ قال: لأني كنت فيهم، ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم، فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أنجو منها أم أكبكب فيها؟ فقال المسيح - عليه السلام - للحواريين: لأكل خبز الشعير بالملح الجريش، ولبس المسوح) جمع مسح بالكسر، وهو الصوف الأسود (والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، عن عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن محمد بن زكريا، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا سهل بن عاصم، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقبة، حدثني عبد الرحمن أبو طالوت، حدثنا مهاجر الأسدي، عن وهب بن منبه، قال: مر عيسى - عليه السلام - بقرية، فساق بنحو من سياق المصنف، وفيه: قال: ما كان جنايتكم؟ قال: عبادة الطاغوت، وحب الدنيا، قال: وما كانت عبادتكم الطاغوت؟ قال: الطاعة لأهل معاصي الله .

وفيه: قال عيسى - عليه السلام -: وما الهاوية؟ قال: سجين، قال: وما سجين ؟ قال: جمرة من نار مثل أطباق الدنيا كلها دفنت أرواحنا فيها .

وفيه: وأنا معلق بشعرة في الهاوية لا أدري أكردس في النار أم أنجو؟ فقال عيسى - عليه السلام -: بحق أقول لكم: لأكل خبز الشعير، وشرب ماء القراح، والنوم على المزابل مع الكلاب لكثير مع عافية الدنيا والآخرة .

(وقال أنس) - رضي الله عنه -: (كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق) ، أي: لا تجاريها النوق في سرعة السير (فجاء أعرابي بناقة له) ، وفي رواية: على قعود له (فسبقها، فشق ذلك على المسلمين) ، أي: اشتد، كما في رواية، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه حق) ، وفي رواية: إن حقا (على الله أن يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه) ، ورواه أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، وأبو داود، وابن حبان، والدارقطني، والنسائي، ووجد بخط الكمال الدميري، قال: أفادني بعض طلبة العلم أنه سمع بعض الحفاظ يقول: الأعرابي الذي جاء على قعود، فسبق ناقة النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل - عليه السلام .

(وقال عيسى - عليه السلام -: من ذا الذي يبني على موج البحر دارا، تلكم الدنيا، فلا تتخذوها قرارا) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا، (وقيل لعيسى - عليه السلام -: علمنا عملا واحدا يحبنا الله عليه، قال: أبغضوا الدنيا يحبكم الله) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا (وقال أبو الدرداء) - رضي الله عنه -: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، ولهانت عليكم الدنيا، ولآثرتم الآخرة) .

قال العراقي: رواه الطبراني دون قوله: ولهانت.. .

إلخ، زاد: ولخرجتم إلى الصعدات... الحديث، وزاد الترمذي، وابن ماجه من حديث أبي ذر: وما تلذذتم بالنساء على الفرش، وأول الحديث متفق عليه من حديث أنس، وفي أفراد البخاري من حديث عائشة. ا ه .

قلت: قد تقدم الكلام على هذا الحديث، وتمام الحديث عند الطبراني بعد قوله: ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله لا تدرون تنجون أو لا تنجون.

وقد رواه الحاكم، والبيهقي كذلك، وعند ابن عساكر من حديث أبي الدرداء: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاما على شهوة أبدا، ولا شربتم شرابا على شهوة أبدا، ولا دخلتم بيتا تستظلون به، ولمررتم إلى الصعدات تلدمون صدوركم، وتبكون على أنفسكم.

ورواه أبو نعيم في الحلية من قوله، وعند الحاكم من حديث أبي ذر: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، ولما ساغ لكم الطعام، ولا الشراب.

وفي الحلية في ترجمة العلاء بن زياد، عن أبي ذر مثل سياق الترمذي، وابن ماجه بزيادة: وددت أني شجرة تعضد.

وأما صدر الحديث فرواه أيضا من حديث أنس أحمد، والدارمي، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، ورواه من حديث أبي هريرة أحمد، والبخاري، والترمذي [ ص: 89 ] وهو عند الحاكم بزيادة في آخره: يظهر النفاق، وترتفع الأمانة... الحديث (وقال أبو الدرداء من قبل نفسه: لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات) بضمتين، أي: إلى البراري، والقفار (تبكون على أنفسكم) قد مر عند الطبراني أنه من جملة حديث أبي الدرداء، ولفظه: ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله.

وعند ابن عساكر بلفظ: ولمررتم إلى الصعدات تلدمون صدوركم.

وأخرجه أبو نعيم في الحلية من قوله، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا داود بن عمرو، حدثنا عبشر، حدثنا برد، عن حزام بن حكيم، قال: قال أبو الدرداء: لو تعلمون ما أنتم راؤون بعد الموت لما أكلتم طعاما على شهوة، ولا شرابا على شهوة، ولا دخلتم بيتا تستظلون فيه، ولخرجتم إلى الصعدات تضربون صدوركم، وتبكون على أنفسكم، وددت أني شجرة تعضد، ثم تؤكل.

إلى هنا نص الحلية، ثم ساق المصنف بقية كلام أبي الدرداء، فقال: (ولتركتم أموالكم لا حارس لها، ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة، وحضرها الأمل، فصارت الدنيا أملك بأعمالكم، وصرتم كالذين لا يعلمون، فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع) ، أي: لا تترك (هواها مخافة مما في عاقبته) ، ثم قال: (ما لكم لا تحابون) ، أي: لا يحب بعضكم بعضا (ولا تناصحون) ، أي: لا ينصح بعضكم بعضا (وأنتم إخوان على دين ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم) ، أي: فساد بواطنكم، (ولو تجامعتم على البر لتحاببتم، ما لكم لا تناصحون في أمر الدنيا، ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه، ويعينه على أمر آخرته، ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم، لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها، كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة; لأنها أملك بقلوبكم، فإن قلتم: حب العاجلة غالب، فإنا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للآجل منها تكدون) ، أي: تتعبون (أنفسكم بالمشقة والاحتراف) ، أي: الاكتساب (في طلب أمر لعلكم لا تدركونه; فبئس القوم أنتم! ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم، فإن كنتم في شك مما جاء به محمد) صلى الله عليه وسلم (فأتونا نبين لكم، ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم، والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم، فنعذركم) ، أي: نقبل عذركم (إنكم لتبينون صواب الرأي في دنياكم، وتأخذون بالحزم في أموركم، ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا; إذ تصيبونه، وتحزنون على اليسير منها) ; إذ (يفوتكم، حتى يتبين ذلك في وجوهكم، ويظهر على ألسنتكم، وتسمونها المصائب، وتقيمون فيها المآتم) جمع مأتم، أي: البكاء، والعويل، والحزن (وعامتكم قد تركوا كثيرا من دينهم، ثم لا يتبين ذلك في وجوههم، ولا يتغير حالكم، إني لأرى الله قد تبرأ منكم، يلقى بعضكم بعضا بالشرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فاصطحبتم على الغل) ، أي: الحقد في الصدور (ونبتت مراغبكم على الدمن) جمع دمنة بالكسر كسدرة، وسدر، وهو الموضع المتلبد بالسرجين (وتصافيتم على رفض) ، أي: ترك (الأجل، ولوددت أن الله أراحني منكم) بالموت (وألحقني بمن أحب رؤيته) ، ولو كان (حيا لم يصابركم) يعني به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، (فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم) ، أي: أبلغت القول إلى أسماعكم إن كنتم تقبلونه وتعملون به، (وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيرا) ، أي: سهلا (والله أستعين على نفسي، وعليكم) إلى هنا. ا ه. كلام أبي الدرداء - رضي الله عنه .

ومن كلام علي - رضي الله عنه - مما هو في نهج البلاغة: ولو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبة إذا لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم، وتلدمون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها، ولا خائف عليها، ولهمت كل امرئ منكم نفسه لا يلتفت إلى غيرها، ولكنكم [ ص: 90 ] نسيتم ما ذكرتم، وأمنتم ما حذرتم، فبان منكم رأيكم، وتشتت عليكم أمركم لوددت أن الله فرق بيني وبينكم، وألحقني بمن هو أحق لي منكم.

ومما رواه ابن المبارك عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية أن أبا الدرداء كان يقول: لا تزالون بخير ما أحببتم خياركم، وما قيل فيكم الحق فقبلتموه، فإن عارف الحق كعامله.

ومما رواه المسعودي، عن أبي الهيثم، قال: قال أبو الدرداء: لا تكلفوا من الناس ما لم تكلفوا، ولا تحاسبوا الناس دون ربهم. ابن آدم، عليك نفسك، فإنه من يتتبع ما يرى الناس يطل حزنه، ولا يشف غيظه.

ومما رواه أبو بكر بن أبي شيبة بسنده إليه، قال: اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم من الموتى، واعلموا أن قليلا يغنيكم خير من كثير يلهيكم، واعلموا أن البر لا يبلى، وإن الإثم لا ينسى.

ومما رواه يزيد بن عمرون، عن جويبر، عن الضحاك عنه، قال: يا أهل دمشق أنتم الإخوان في الدنيا، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، ما يمنعكم من مودتي، وإنما مؤنتي على غيركم، ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم به، وتركتم ما أمرتم به إلا أن قوما بنوا شديدا، وجمعوا كثيرا، وأملوا بعيدا، فأصبح بنيانهم قبورا، وأملهم غرورا، وجمعهم بورا.

ومما رواه أحمد بن حنبل بسنده إليه أنه كان يقول: ويل لكل جماع فاغر فاه كأنه مجنون يرى ما عند الناس، ولا يرى ما عنده لو يستطيع لوصل الليل بالنهار، ويله من حساب غليظ، وعذاب شديد.

ومما رواه خالد بن يزيد، عن سعيد بن هلال عنه أنه كان يقول: يا معشر أهل دمشق، لا تستحيون تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تبلغون .

قد كان القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويأملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون، فأصبح جمعهم بورا، وأملهم غرورا، وبيوتهم قبورا .

هذه عاد قد ملأت ما بين عدن إلى عمان أموالا وأولادا، فمن يشتري مني تركة عاد بدرهمين.

ومما رواه صفوان بن عمرو عنه أنه كان يقول: يا معشر أهل الأموال، بردوا على جلودكم من أموالكم قبل أن نكون وإياكم فيها سواء، ليس إلا أن تنظروا فيها، وننظر فيها معكم .

إني أخاف عليكم شهوة خفية في نعمة ملهية، وذلك حين تشبعون من الطعام، وتجوعون من العلم إلى غير ذلك .

من غرر كلامه مما هو مذكور في الحلية، وغيرها، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية