ويدل عليه من النقل قول الأمة قاطبة ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن وقول الله عز وجل : أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وقوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ويدل عليه من جهة العقل أن المعاصي والجرائم إن كان الله يكرهها ولا يريدها وإنما هي جارية على وفق إرادة العدو إبليس لعنه الله مع أنه عدو لله سبحانه والجاري على وفق إرادة العدو أكثر من الجاري على وفق إرادته تعالى فليت شعري كيف يستجيز المسلم أن يرد ملك الجبار ذي الجلال والإكرام إلى رتبة لو ردت إليها رياسة زعيم ضيعة لاستنكف منها ؟! إذ لو كان ما يستمر لعدو الزعيم في القرية أكثر مما يستقيم له لاستنكف من زعامته وتبرأ عن ولايته .
والمعصية هي الغالبة على الخلق وكل ذلك جار عند المبتدعة على خلاف إرادة الحق تعالى وهذا غاية الضعف والعجز ، تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين علوا كبيرا .
فهذه الآيات مجموع ما تمسك به الأصحاب، وفي شرح المقاصد: وللمعتزلة في تلك الآيات تأويلات فاسدة وتعسفات باردة، يتعجب منها الناظر، ويتحقق أنهم محجوبون، وبوصفها محقوقون، ولظهور الحق في هذه المسألة يكاد عامتهم به يعترفون ويجري على ألسنتهم أن ما لم يشأ الله لا يكون .
ثم العمدة القصوى لهم في الجواب عن أكثر الآيات حمل المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء، وحين سئلوا عن معناها تحيروا، فقال العلامة: معناها خلق الإيمان والهداية فيهم بلا اختيار منهم .
ورد بأن المؤمن حينئذ يكون هو الله، لا العبد، على ما زعمتم من إلزامنا لما قلنا بأن الخالق هو الله تعالى، مع قدرتنا واختيارنا وكسبنا، فكيف بدون ذلك؟! فقال الجبائي: معناها خلق العلم الضروري بصحة الإيمان وإقامة الدلائل المثبتة لذلك العلم الضروري .
ورد بأن هذا لا يكون إيمانا، والكلام فيه على أن في بعض الآيات دلالة على أنهم لو رأوا كل آية ودليل لا يؤمنون البتة. فقال ابنه أبو هاشم: معناها أن يخلق لهم العلم بأنهم لو لم يؤمنوا لعذبوا عذابا شديدا، وهذا أيضا فاسد; لأن كثيرا من الكفار كانوا يعلمون ذلك ولا يؤمنون ،على [ ص: 174 ] أن قوله تعالى: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، يشهد بفساد تأويلاتهم; لدلالته على أنه إنما لم يهد الكل لسبق الحكم بملء جهنم، ولا خفاء في أن الإيمان والهداية بطريق الجبر لا يخرجهم عن استحقاق جهنم عندهم، وبالله التوفيق .
ثم أشار المصنف إلى الثاني، وهو دليل العقل، بقوله: (ويدل عليه) أي: على ما ادعيناه من تعلق الإرادة بكل كائن (من جهة العقل) هو (أن المعاصي والجرائم إن كان الله يكرهها ولا يريدها وإنما هي جارية) وواقعة (على وفق إرادة العدو) الأكبر (إبليس - لعنه الله- مع أنه عدو لله سبحانه) بنص الكتاب والسنة (والجاري على وفق إرادة العدو) المذكور، كما لا يخفى (أكثر من الجاري على وفق إرادته) عز وجل من الطاعات الجارية على مراده عز وجل، لزم رد ملك الجبار إلى رتبة خسيسة (فليت شعري كيف يستجيز المسلم) العاقل، أي: كيف يرى جائزا (أن يرد ملك الجبار) تعالى شأنه (ذي الجلال والإكرام) والعظمة والإنعام (إلى رتبة لو ردت إليها) أي: إلى تلك الرتبة (رياسة زعيم) أي: كفيل (ضيعة) أي: قرية (لاستنكف) ذلك الزعيم (منها؟!) وفي بعض النسخ: "عنها"، وذلك (إذ لو كان يستمر) أي: يدوم مطردا (لعدو) ذلك (الزعيم في) محل مملكته وولايته، أي: تلك (القرية) وقوع مراد عدوه (أكثر مما يستقيم له) أي: الزعيم (لاستنكف من زعامته) أي: رياسته وكفالته بأمور أهل تلك القرية (وتبرأ عن ولايته) لها .
(والمعصية) كما لا يخفى (هي الغالبة على الخلق) ، والطاعات هي الأقل (وكل ذلك جار عند المبتدعة) أي: المعتزلة، ومن تبعهم من أهل الأهواء (على خلاف إرادة الحق) تعالى، (وهذا غاية الضعف والعجز، تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين علوا كبيرا) .
وحاصل هذا الجواب أن العقول قد قضت بأن قصور الإرادة وعدم نفوذ المشيئة من أصدق الآيات الدالة على سمات النقص، والاتصاف بالقصور والعجز، ومن ترسم للملك ثم كان لا ينفذ مراده في أهل مملكته، عد ضعيف المنة، مضياعا للفرصة، فإن كان ذلك يزري بمن ترسم للملك فكيف يجوز في صفة ملك الملوك ورب الأرباب؟! هكذا سياق إمام الحرمين في اللمع .
ويعني من سياقه أن أكثر أفعال العباد واقعة على ما يدعو إليه الشيطان ويريده، والطاعات التي يدعو إليها الله تعالى ويريدها هي الأقل، فإذا كان الأكثر واقعا على خلاف مراد الله تعالى اقتضى ذلك نقصا في الملك، وقصورا وعجزا، وهذا هو المحتج به على الوحدانية، وقد نقضه المعتزلة، إذ قالوا: إن الله تعالى يريد الإيمان والطاعة، ولا يقع مراده ، والعبيد يريدون الكفر والعصيان، ويقع مرادهم .