الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الركن الثالث العلم بأفعال الله تعالى ، ومداره على عشرة أصول .

التالي السابق


(الركن الثالث)

(العلم بأفعال الله تعالى، ومداره على عشرة أصول)

اعلم أن الصفات ضربان: صفات الذات، وصفات الفعل، والفرق بينهما أن كل ما وصف الله به تعالى ولا يجوز أن يوصف به وبضده فهو من صفات الذات، كالقدرة والعلم والعزة والعظمة، وكل ما يجوز أن يوصف به وبضده فهو من صفات الفعل، كالرأفة والرحمة والسخط [ ص: 158 ] والغضب .

والفرق بين الصفة والاسم أن الصفة عبارة عن مجرد العلم والقدرة بدون الذات، والاسم عبارة عن الذات، وقد اختلف فيها، فقال الأشعري: صفات الذات كالحياة والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة قديمة، قائمة بذاته، وصفات الفعل حادثة، غير قائمة بذاته، وفرقوا بين صفات الذات وصفات الفعل بجواز السلب وعدمه، إلا أنه لا يستلزم سلبه نقيضه .

ووافقه الماتريدي إلا في صفات الأفعال; فإنها عنده قديمة، قائمة بالذات، وعليه تتفرع مسألة التكوين، والخلف بينهما لفظي، كما سبق في الخطبة، فلنقدم قبل الخوض في هذا الركن في تحقيق هذه المسألة; فإنها من أعظم المسائل المختلف فيها، وإن كان المصنف لا يرى ذلك، ولنورد سياق ابن الهمام في مسايرته ممزوجا بشرحه لابن أبي شريف على وجه الاختصار، ثم نورد كلام إمامنا الأعظم في الفقه الأكبر بالإجمال، ثم نشرحه ونذكر ما يتعلق به تفصيلا .

قال ابن الهمام ما نصه: والإشارة في صفات الأفعال التي يدل عليها نحو قوله تعالى: الخالق البارئ المصور ، ونحو الرازق، والمحيي، والمميت، والمراد بها صفات تدل على تأثير، ولها أسماء غير اسم القدرة، باعتبار أسماء إشارتها، والكل يجمعها اسم التكوين، أي: رجوع الكل إلى صفة واحدة، هي التكوين، وهو ما عليه المحققون من الحنفية، خلافا لما جرى عليه بعض علماء ما وراء النهر منهم ،من أن كل صفة حقيقية أزلية; فإن في هذا تكثيرا للقدماء جدا، فادعى المتأخرون منهم من عهد الإمام أبي منصور الماتريدي أنها -أي: تلك الصفات الراجعة إلى صفة التكوين- صفات زائدة على الصفات المتقدمة، أي: المعقود لها الأصول السابقة .

وليس في كلام أبي حنيفة وأصحابه المتقدمين تصريح بذلك سوى ما أخذه المتأخرون من قول الإمام: كان تعالى خالقا قبل أن يخلق، ورازقا قبل أن يرزق .

وذكروا له وجوها في الاستدلال، منها - وهو عمدتهم في إثبات هذا المدعى- أن الباري تعالى مكون الأشياء، أي: موجدها ومنشئها إجماعا، وهو -أي: كونه تعالى مكون الأشياء بدون صفة التكوين التي المكونات آثاره يحصل عن تعلقها بها- محال ضرورة استحالة وجود الأثر بدون الصفة التي بها يحصل الأثر، ولا بد أن تكون صفة التكوين أزلية; لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى، والأشاعرة يقولون: ليست صفة التكوين على تفاصيلها سوى صفة القدرة، باعتبار تعلقها بتعلق خاص، فالتخليق هو القدرة باعتبار تعلقها بالمخلوق، والترزيق صفة القدرة باعتبار تعلقها بإيصال الرزق، وما ذكروه في معناه لا ينفي هذا، ولا يوجب كونها صفات أخرى لا ترجع إلى القدرة المتعلقة، ولا يلزم في دليل لهم ذلك، بل في كلام أبي حنيفة نفسه ما يفيد أن ذلك على ما فهم الأشاعرة من هذه الصفات على ما نقله عنه الطحاوي في عقيدته ما نصه: وكما كان تعالى لصفاته أزليا، كذلك لا يزال عليها أبديا، ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري، له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وكما أنه يحيي الموتى استحق هذا الاسم قبل إحيائهم استحق اسم الخالق قبل إنشائهم; ذلك بأنه على كل شيء قدير. اهـ .

فقوله: ذلك بأنه على كل شيء قدير; تعليل وبيان لاستحقاق اسم الخالق قبل المخلوق، فأفاد أن معنى الخالق قبل الخلق استحقاق اسمه بسبب قيام قدرته، فاسم الخالق ولا مخلوق في الأزل لمن له قدرة الخلق في الأزل، وهذا ما يقوله الأشاعرة، والله الموفق .

قال ابن أبي شريف: إطلاق الخالق بمعنى القادر على الخلق مجاز من قبيل إطلاق ما بالقوة على ما بالفعل، وكذا الرازق ونحوه، وأما في قول أبي حنيفة: كان خالقا قبل أن يخلق، ورازقا قبل أن يرزق، فمن قبيل إطلاق المشتق قبل وجود المعنى المشتق منه، كما هو مقرر في مبادئ أصول الفقه .

ووقع في البحر للزركشي إطلاق الخالق والرازق ونحوهما في حقه تعالى قبل وجود الخلق والرزق حقيقة، وإن قلنا: صفة الفعل من الخلق والرزق ونحوهما حادثة. وفيه بحث; لأن قوله: وإن قلنا.. إلخ; ممنوع عند الأشعرية القائلين بحدوث صفات الأفعال، إنما يلائم كلام الماتريدية القائلين بقدمها، فإن قيل: لو كان مجازا; لصح نفيه، وقولنا: ليس خالقا في الأزل أمر مستهجن; قلنا: استهجانه والكف عن إطلاقه ليس من جهة اللغة، بل هو من جهة الشرع أدبا، وكلامنا في الإطلاق لغة، ولا يخفى أنه لا يقال: إنه تعالى أوجد [ ص: 159 ] المخلوق في الأزل حقيقة; لأنه يؤدي إلى قدم المخلوق، وهو باطل. هذا آخر كلامه .

ولنورد ما وعدناه من سياق عبارة الإمام الأعظم في الفقه الأكبر من إملاء أبي مطيع البلخي ما نصه: فالفعلية التخليق والإنشاء والإبداع والصنع.. وغير ذلك، والله تعالى لم يزل خالقا بتخليقه، والتخليق صفة في الأزل، وفاعلا بفعله، والفعل صفة في الأزل، فكان الله خالقا قبل أن يخلق، ورازقا قبل أن يرزق، وفعله صفته في الأزل، والفاعل هو الله، وفعل الله غير مخلوق، والمفعول مخلوق. اهـ .

اعلم أن الصفات الفعلية هي التي تنشئ الأفعال، كالتخليق، أي: التكوين المخصوص بإيجاد الأشياء على تقدير واستواء، وبإبداعها من غير أصل ولا احتذاء، فبالمعنى الأول قوله تعالى: إنا كل شيء خلقناه بقدر ، وبالمعنى الثاني قوله: خلق السماوات والأرض ، وإيثاره على الخلق لأظهريته في ذلك، وشيوع استعمال الخلق بمعنى المخلوق، والإنشاء، أي: التكوين المخصوص بإيجاد الشيء وترتيبه، وعليه قوله تعالى: هو الذي أنشأكم ، والإبداع، أي: التكوين المخصوص بإيجاد الشيء بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان، وعليه قوله تعالى: بديع السماوات والأرض ، أي: مبدعهما، والصنع، أي: التكوين المخصوص بإيجاد الشيء على الإجادة والإتقان، وعليه قوله تعالى: صنع الله الذي أتقن كل شيء ، وغير ذلك من الإحياء والإماتة والترزيق والتصوير والإعادة ونحوها، مما ورد في النصوص، وفيه إشارات:

الأولى: أن صفة الفعل حقيقية وليست عبارة عن تعلق القدرة والإرادة، وإليه أشار بقوله فيما بعد: والفعل صفة في الأزل .

الثانية: أن صفات الأفعال من التخليق والإنشاء والإبداع وغير ذلك راجعة إلى صفة أزلية قائمة بالذات، هي الفعل والتكوين العام، بمعنى مبدأ الإفاضة، التي هي إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود، لا صفات متعددة كما ذهب إليه البعض، ولا عين الإفاضة كما ظن، وإليه أشار فيما بعد بقوله: والفعل صفته في الأزل; فإن عدم كون الإخراج صفة أزلية حقيقية من مسلمات العقول; ولذا قال الإمام الماتريدي: إذا أطلق الوصف له تعالى بما يوصف به من الفعل والعلم ونحوه، يلزم الوصف به في الأزل، فيوصف بمعنى قائم بذاته قبل وجود الخلق، كما في البرهان الساطع، وقال الرستغفني في الإرشاد: طريق التكوين وطريق الصفات والأفعال الواقعة بالصفات تتراخى عن الصفات، كالقدرة والكلام. وفي التعديل لصدر الشريعة: صفات الأفعال ليست نفس الأفعال، بل منشؤها; فالصفات قديمة، والأفعال حادثة، وهو مختار عبد الله بن سعيد القطان في الرحمة والكرم والرضا; فبعض مشايخنا، كصاحب التبصرة والتلخيص والإرشاد، وإن تسامحوا في تعريف التكوين بإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود، كما هو دأبهم من عدم الالتفات إلى جوانب التعريفات، فقد نبهوا على المراد في المقام من مبدأ الإخراج المذكور بيان القيام بذاته تعالى، كسائر صفاته، سيما الكلام .

الثالثة: الرد على المعتزلة النافين لمغايرة التخليق للمخلوق، متمسكين بأن التخليق لو كان غير المخلوق فإن كان قديما لزم قدم العالم، وإن كان حادثا افتقر إلى خلق آخر وتسلسل .

الرابعة: الرد على من أرجع الصفات الفعلية إلى الاعتبارية، كالأشاعرة، الذاهبين إلى أن التكوين وسائر صفات الأفعال ليست صفات حقيقية، بل هو اعتباري يحصل في العقل من نسبة الفاعل إلى المفعول، وليس مغايرا للمفعول في الخارج; فالتكوين بمعنى المكون، متمسكين بأن مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود ليس غير القدرة المتعلقة بأحد طرفي الفعل والترك، المقترنة بإرادته; فإن القدرة صفة تؤثر على وفق الإرادة، أي: إنما تؤثر في الفعل، ويجب صدور الأثر عند انضمام الإرادة، وأما بالنظر إلى نفسها وعدم اقترانها بالإرادة المرجحة لأحد طرفي الفعل والترك; فلا يكون إلا جائز التأثير; فلهذا لا يلزم وجود جميع المقدورات .

وأشار الإمام إلى الجواب عما تمسك به المخالفون بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: والله تعالى لم يزل خالقا، أي: متصفا بمدلول هذا الاسم المتعلق على وجه التأثير بتخليقه، أي: بسبب قيام التخليق، الذي هو مبدؤه بذاته تعالى في الأزل; لأن الوصف بذلك المشتق يدل على قيام ما يلزم لمبدئه من الأمور الثابتة بالاتفاق، وهو غير القدرة; فإن التخليق يتوقف على القدرة، والقدرة غير متوقفة على التخليق، فيتغايران، وإليه أشار [ ص: 160 ] بقوله: والتخليق -أي: مبدأ الإيجاد في الخارج- صفة في الأزل، أي: صفة مستقلة مغايرة للقدرة، كما هو المتبادر، فأشار إلى أنه لو لم يكن متصفا به في الأزل لمعنى قائم بذاته تعالى قبل وجود الخلق، كما دل الوصف به، واتصف بوجود المخلوق، صارت الصفة حادثة له بالمخلوق، فكان القول بتعريه عنها في الأزل وحدوثها بحدوث المخلوق قولا بقيام النقص والحاجة إلى ما يتحقق بذلك، والقديم يتعالى عن ذلك، وفيه إشارات:

الأولى: أن ذلك المبدأ المدلول هو المعنى الذي نجده في الفاعل، وبه يمتاز عن غيره، ويرتبط بالمفعول، ويؤثر في إيجاده بالفعل في الوقت المراد، وإليه أشار بقوله: والتخليق صفة في الأزل. بل هذا المعنى يعم الموجب أيضا، لا صلاحية التأثير الراجعة إلى القدرة، كما ظن; لأن تعلقها على وجه صحة التأثير في الإيجاد والترك دون التأثير بالفعل .

الثانية: أن ذلك المدلول بالمشتقات يرجع إلى مطلق الفعل المعبر عنه بالتكوين، وإليه أشار بقوله: وفاعلا، أي: متصفا بفعله، أي: بسبب قيام الفعل، بمعنى مبدأ الإيجاد بذاته، كما دل عليه قوله تعالى: فعال لما يريد ; فإن إطلاق الفعل على نفس الصفة شائع بينهم; فالفعل حقيقة عرفية فيما به الفعل، كما أن التكوين حقيقة فيما به التكون، وقد بينه بقوله: والفعل صفة في الأزل; فأشار إلى اختلاف أسمائه باختلاف التعلقات، فمن حيث التعلق بحصول المخلوقات تخليق، وبحصول الأرزاق ترزيق.. إلى غير ذلك من الصفات، واختاره جمهور الماتريدية; لدلالة المشتقات فيهما على أصل الفعل العام للمتعلقات دون سائر الصفات .

الثالثة: الجواب بمنع إرجاعه إلى تعلق القدرة المقارنة للإرادة، حيث وصف به في الأزل، وقيد بتعلق الإرادة، ودل على الإيجاد في الوقت المراد; فهو غير تعلق القدرة المقارنة بالإرادة; إذ لا تعلق بالفعل في الأزل، وقد وصف به فيه، وغير القدرة; لأن تعلقها بصحة التأثير والترك دون التأثير بالإيجاد البتة في الوقت المراد، وإنما عبر عنه بالتكوين أخذا من قوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، وإليه أشار بقوله: وفاعلا بفعله، والفعل صفة في الأزل، وبيانه أنه تعالى وصف ذاته بأنه فعال لما يريد ، وعبر عن تكوينه الأشياء بأن يقول له: "كن"، وهو مجاز عن سرعة الإيجاد عند الجمهور منا، دال على إيجاده تعالى الأشياء، وتكوينه عند تعلق إرادته بلا تراخ ولا تعذر، وليس بمعنى تعلق القدرة المقارنة بالإرادة; لأنه علق على الإرادة، أي: تعلقها المدلول بقوله تعالى: لما يريد ، وقوله: إذا أراد شيئا ، فدل على أنه غيره; لأن المعلق غير المعلق عليه بالضرورة، ودل على الوجود والتأثير في الأول، ورتب عليه الوجود المدلول عليه بقوله: فيكون ، في الثاني، فدل على أنه غير تعلق القدرة; لأن تعلقها بصحة وجود المقدور دون الوجود، ودل الوصف بالمشتق على قيام أمر حقيقي بالموصوف، فثبت قيام أمر لازم لمبدئه، وكونه صفة له أزلية، والأمر يرجع لمتعلق القدرة المقارنة بالإرادة; إذ لا تعلق بالفعل في الأزل، ولأنه إبطال لدلالة تلك المشتقات بالكلية .

وفي المعارف شرح الصحائف: فإن قلت: لم لا يكفي القدرة والإرادة في وجود الأشياء، فما الحاجة إلى صفة أخرى، قلت: لا خفاء أن القدرة والإرادة بدون التأثير لا يكفيان في وجود الأثر والتأثير بصفة التكوين .

واعترض الفخر الرازي بأن صفة القدرة مؤثرة على سبيل الجواز، أي: جاز أن تتعلق بالتأثير، وجاز ألا تتعلق، وصفة التخليق إن كانت مؤثرة على سبيل الوجوب لزم أن يكون الله تعالى موجبا، لا مختارا، وهو محال .

والجواب أن تأثير صفة الخلق في المخلوق على سبيل الوجوب، على معنى أنه متى خلق الله تعالى وجب وجود المخلوق، وإلا يلزم العجز، وأما تعلقها باختياره، وهو المراد بالحصول، فعلى سبيل الجواز; لأنه متى شاء خلق، ومتى شاء لم يخلق، والقدرة بعكس ذلك; إذ تأثيرها على سبيل الجواز، وحصولها لله تعالى على سبيل الوجوب، فللخلق جهتان: جهة الإيجاب، وجهة الجواز، ولا يلزم من إيجابه كون الله تعالى موجبا; لما علمت، ولأن جهة جوازه غير جهة جوازها، فظهر لك أن إرجاع التكوين إلى تعلق القدرة والإرادة تحكم وتناقض .

والثاني: ما أشار إليه بقوله: فكان الله خالقا قبل أن يخلق، ورازقا قبل أن يرزق، أي: فخلق المخلوقات ورزقها في الوقت الذي تعلق به تلك الصفة، وليست هي القدرة; لأنه كان قادرا على خلق الشموس والأقمار في هذا العالم، لكنه ما خلقها; [ ص: 161 ] فالقدرة حاصلة دون التخليق، فهما متغايران، وإليه أشار بقوله: وفعله - أي: مبدؤه- صفة، أي: القائمة به تعالى في الأزل، أي أن صفة الفعل لو لم تكن مستقلة، بل راجعة إلى تعلق القدرة والإرادة وعين المكون في التحقق، لزم إخلاء المشتق عن الدلالة على ثبوت المبدأ والخلو عن صفة كمال، ثم قال: والفاعل -أي: المكون للموجودات- هو الله، الواجب المتعال المتصف بصفات الكمال، فلو لم يكن الفعل والتكوين صفة حقيقية له لزم خلوه عن صفة كمال، وإخلاء المشتق الدال عليه، واستغناء الحوادث المحال، فالمراد بالفاعل: من شأنه أن يوجد الشيء البتة في وقت أراد أن يوجده فيه دون من صدر منه الفعل; لعدم استقامة الحصر عليه; لأن الكاسب أيضا يوصف بالفاعل على الحقيقة عند أهل السنة، ثم أشار إلى مغايرته للمكون بقوله: وفعل الله -أي: مبدأ فعله المدلول بالمشتقات- غير مخلوق; لما يلزمه ما ذكر من المحاولات دون نفس الفعل والتأثير; لأنه ليس متعلق الخلق والإيجاد في الخارج، فلا يفيد نفيه، بل لا يصح نفيه أيضا; إشارة إلى أن التكوين القائم به تعالى ليس نفس التأثير والإخراج من العدم إلى الوجود، بل مبدأ التأثير في ذلك، وليس نفس المكون في التحقق والتعقل، وإلى أن صفة التخليق غير المخلوق; لأنا نقول: "وجد هذا المخلوق; لأن الله تعالى خلقه"، فيعلل وجوده بتخليقه إياه، فلو كان التخليق غير المخلوق لكان قولنا: "وجد لأن الله تعالى خلقه" جاريا مجرى قولنا: "وجد ذلك المخلوق لنفسه"، وذلك باطل، كما في شرح الصحائف، وإلى أن إيجاده المكونات بتكوينه ليس على الإيجاب بالذات; لقدرته على الترك، كما مر; ففي التعديل أن المراد بإيجاده الشيء البتة أنه لا يتردد في أن الفاعل يفعل مع قدرته على الترك، فتميز عن القدرة -إذ هي لا توجب الجزم- تميزا لا يلزم منه الإيجاب بالذات; لتوسط الفعل الاختياري، وهو الإيجاد وقت كذا، وإليه أشار بقوله: والمفعول مخلوق; أي: محدث مسبوق بالعدم، فهو مغاير لفعله وتكوينه في التعقل والتحقق، وصادر عنه تعالى بالاختيار، كما هو المتبادر من الخلق، وإذا أحطت بجميع ما ذكرناه وتأملت حق التأمل، عرفت اندفاع وجوه من الإشكالات الواردة على القائلين بقدم صفة التكوين، من ذلك ما قيل: نقول لهم: إن عنيتم مؤثرية المقدور فهي صفة نسبية، والنسبية لا توجد إلا مع المنتسبين، فيلزم من حدوث المكون حدوث التكوين، وإن عنيتم به صفة مؤثرة في صحة وجود الأثر فهي عين القدرة، وإن عنيتم به أمرا ثالثا فبينوه .

الثاني: ما قيل: إنه لا يعقل من التكوين إلا الأحداث، وإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود، كما فسره القائلون بالتكوين الأزلي، ولا خفاء في أنه إضافة يعتبرها العقل من نسبة المؤثر إلى الأثر، فلا يكون موجودا عينيا ثابتا في الأزل، وأنه لو كان أزليا لزم أزلية المكونات ضرورة امتناع التأثير بالفعل بدون الأثر، وأنهم أطبقوا على إثبات أزليته ومغايرته للقدرة، وكونه غير المكون، وسكتوا عما هو أصل الباب، أعني مغايرته للقدرة، من حيث تعلقها بأحد طرفي الفعل والترك، واقترانها بإرادته .

واغتر بذلك شيخنا ابن الهمام، فقال في مسايرته ما قال مما تقدم ذكره آنفا في أول الكلام، مع أن تعليله بقول أبي جعفر الطحاوي في عقيدته من قوله ذلك - بأنه على كل شيء قدير، وأنه بيان لتمام قدرته; فيرجع صفة التكوين إلى القدرة- مفهوم، وهو لا يعارض المنطوق المعلوم، كما أشار إليه ملا علي في شرح الفقه الأكبر، وسبقه الإمام أبو شجاع الناصري.

الثالث: ما قيل: إن الاستدلال بالآية لا يطابق المرام; لأنه حينئذ يعود إلى صفة الكلام، ويثبت صفة أخرى، وأن دلالة الاشتقاق في الصفات الحقيقية كالعلم والقدرة، ولا نسلم أن التأثير والاستيجاد كذلك، بل هو معنى يعقل من إضافة المؤثر إلى الأثر; فلا يكون إلا فيما لا يزال، ولا يفتقر إلا إلى صفة القدرة والإرادة .

الرابع: ما قيل: إن القدرة لا تأثير لها في كون المقدور في نفسه ممكن الوجود; لأن الإمكان للممكن بالذات، وما يكون بالذات لا يكون بالغير، بل القدرة صفة مؤثرة في وجود المقدور، والتكوين هو تعلق القدرة بالمقدور، حال إرادة إيجاده .

الخامس: ما قيل: إن التمدح بذلك كالتمدح بقوله تعالى: يسبح له ما في السماوات والأرض ، وقوله: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، [ ص: 162 ] أي: معبود، ولا شك أن ذلك الفعل إنما يكون فيما لا يزال، لا في الأزل، والإخبار عن الشيء في الأزل لا يقتضي ثبوته فيه، كذلك الأرض والسماء، نعم هو في الأزل بحيث يحصل له هذه التعلقات والإضافات فيما لا يزال; لما له من صفات الكمال، وإن النقص إنما هو فيما يصح اتصافه به في الأزل، ولا نعلم أن التكوين والإيجاد بالفعل كذلك، نعم هو في الأزل قادر عليه .

السادس: ما قيل: إنما ثبت بالدليل أن مبدأ التأثير بالنسبة إلى مقدور الواجب نفس القدرة والإرادة بالنسبة إلى صفات ذاته الممتازة بذاتها عن سائر الذوات; فلا يكون التكوين صفة أخرى .

السابع: ما قيل: إن أريد بمبدأ الاشتقاق المعنى المصدري فمسلم أن ثبوت المشتق للشيء لا يتصور بدون المبدأ، لكنه ليس بحقيقي، وإن أريد به الصفة الحقيقية فممنوع، وكون المعنى المصدري مستلزما لذلك إنما هو في الشاهد، وليس الأمر كذلك في الغائب، وأنه منقوض بمثل الواجب والموجود، وإن أريد الثبوت بمعنى الاتصاف به فغير مفيد، وقد عرفت أن القول بأنه تعلق القدرة على وفق الإرادة بوجود المقدور لوقت وجوده إذا نسب إلى القدرة يسمى إيجابا له، وإذا نسب إلى القادر يسمى الخلق والتكوين.. ونحو ذلك; فهو أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة الفاعل إلى المفعول، وليس أمرا محققا مغايرا للمفعول في الخارج، ليس تحقيقا في المقام، بل غايته تصحيح للقول بنسبة التكوين للمكون، وتقريب له إلى الأفهام، كذا صرح به شارح التعديل في شرحه، والله أعلم .




الخدمات العلمية