فإن قلت إن اختلافها باختلاف بذورها وأصولها فمتى كان في النواة نخلة مطوقة بعناقيد الرطب ومتى ؟! كان في حبة واحدة سبع سنابل في كل سنبلة مائة ؟! ثم انظر إلى أرض البوادي ، وفتش ظاهرها وباطنها ، فتراها ترابا متشابها فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ألوانا مختلفة ، ونباتا متشابها وغير متشابه لكل واحد طعم وريح ولون وشكل يخالف الآخر فانظر إلى كثرتها واختلاف أصنافها ، وكثرة أشكالها ثم اختلاف طبائع النبات ، وكثرة منافعه وكيف . أودع الله تعالى العقاقير المنافع الغريبة ، فهذا النبات يغذي وهذا يقوي وهذا يحيي وهذا يقتل وهذا يبرد ، وهذا يسخن ، وهذا إذا حصل في المعدة قمع الصفراء من أعماق العروق وهذا يستحيل إلى الصفراء وهذا يقمع البلغم ، والسوداء ، وهذا يستحيل إليهما ، وهذا يصفى الدم وهذا يستحل دما وهذا يفرح وهذا ينوم وهذا يقوي ، وهذا يضعف . فلم تنبت من الأرض ورقة ، ولا تبنة ، إلا وفيها منافع لا يقوى البشر على الوقوف على كنهها وكل واحد من هذا النبات يحتاج الفلاح في تربيته إلى عمل مخصوص فالنخل تؤبر والكرم يكسح والزرع ينقى عنه الحشيش والدغل وبعض ذلك يستنبت ببث البذر في الأرض وبعضه بغرس الأغصان وبعضه يركب في الشجر . ولو أردنا أن نذكر اختلاف أجناس النبات وأنواعه ، ومنافعه ، وأحواله ، وعجائبه لا نقضت ، الأيام في وصف ذلك ، فيكفيك من كل جنس نبذة يسيرة تدلك على طريق الفكر فهذه عجائب النبات .
(ثم انظر إلى أرض البوادي، وفتش ظاهرها وباطنها، فتراها ترابا متشابها ) يشبه بعضه بعضا (فإذا أنزل عليها الماء ) من السماء (اهتزت ) أي تحركت بالنبات عند وقوع الماء عليها (وربت ) أي زادت زيادة المربي أي المشرف (وأنبتت من كل زوج بهيج ) أي أنواع الأشجار والنبات (ألوانا مختلفة، ونباتا متشابها وغير متشابه لكل واحد طعم وريح ولون وشكل يخالف الآخر وانظر إلى كثرتها واختلاف أصنافها، وكثرة أشكالها ثم اختلاف طبائع النبات، وكثرة منافعه. و ) انظر (كيف أودع الله تعالى العقاقير المنافع الغريبة، فهذا النبات يغذي ) أي يقوم منزلة الغذاء للبدن (وهذا يقوي ) الأعضاء الرئيسة، والحواس (وهذا يحيي ) العليل، ويبرئه من مرضه (وهذا يقتل ) بسميته (وهذا يبرد، وهذا [ ص: 200 ] يسخن، وهذا إذا حصل في المعدة قمع الصفراء من أعماق العروق ) أي من أصولها (وهذا يستحيل إلى الصفراء ) في الحال (وهذا يقمع البلغم، والسوداء، وهذا يستحيل إليهما، وهذا يصفي الدم ) ويروقه (وهذا يستحيل دما ) خالصا (وهذا يفرح ) وينشط (وهذا ينوم ) ويسكن (وهذا يقوي، وهذا يضعف. فلم تنبت من الأرض ورقة، ولا تبنة، إلا وفيها منافع لا يقوى البشر على الوقوف على كنهها ) .
(وكل واحد من هذا النبات يحتاج الفلاح ) الذي يفلح الأرض ويشقها لاستنباته (في ترتيبه إلى عمل مخصوص ) في زمن مخصوص (فالنخيل تؤبر ) أي تلقح، قال أبو حاتم في كتاب "النخلة": إذا انشق الكافور قيل شقيق النخال، وهو حين يؤبر بالذكر فيؤتي بشماريخه فتنفض فيطير غبارها، وهو طحين شماريخ الفحال إلى شماريخ الأنثى، وذلك هو التلقيح. (والكرم يكسح ) أي يقطع، وينقى، ويقلم (والزرع ينقى عنه الحشيش ) الأجنبي (والدغل ) شبه الحالوم وغيره مما يفسده بقاؤه (وبعض ذلك يستنبت ببث البذر في الأرض ) أي رميه فيها (وبعضه بغرس الأغصان ) في الأرض (وبعضه يركب في الشجر. ولو أردنا أن نذكر اختلاف أجناس النبات، وأنواعه، ومنافعه، وأحواله، وعجائبه، لانقضت الأيام في وصف ذلك، فيكفيك من كل جنس نبذة يسيرة تدلك على طريق الفكر فهذه عجائب النبات ) .
ومن كلام أمير المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=8علي- رضي الله عنه- في صفة الأرض ودحوها على الماء: "كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة، ولجج بحار زاخرة، تلتطم أواذي أمواجها، وتصطفق متقاذفات أثباجها، وترغو زبدا كالفحول عند هياجها، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها، وسكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكلها، وذل مستخزيا إذا تمعكت عليه بكواهلها، فأصبح بعد اصطحاب أمواجه ساجيا مقهورا، وفي حكمة الذل منقادا أسيرا، وسكنت الأرض مدحوة في لجة تيار، وردت من نخوة بأوه واعتلائه، وشموخ أنفه، وسمو غلوائه، وكعمته على كظة جريته، فهمد بعد نزقاته، ولبد بعد زيفان وثباته، فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها، وحمل شوامخ الجبال البذخ على أكتافها، فجر ينابيع العيون من عرانين أنوفها، وفرقها في سهوب بيدها وأخاديدها، وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها، وذوات الشناخيب الشم من صنافيدها، فسكنت من الميدان برسوب الجبال في قطع أديمها، وتغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها، وركوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها، وفسح بين الجو وبينها، وأعد الهواء متنسما لساكنها، وأخرج إليها أهلها على تمام مرافقها، ثم لم يدع جرز الأرض التي تقصر مياه العيون عن روابيها، ولا تجد جوادل الأنهار ذريعة إلى بلوغها، حتى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيي مواتها، وتستخرج نباتها، ألف غمامها بعد افتراق لمعه، وتباين فرعه، حتى إذا تمخضت لجة المزن فيه، والتمع برقه في كففه، ولم ينم وميضه في كنهور بابه، وتراكم سحابه، أرسله سحا متداركا، قد أسف هيدبه تمر به الجنوب درر أهاضيبه، ودفع شآبيبه، فلما ألقت السحاب برك بوانيها، وبعاع ما استقلت به من العبء المحمول عليها، أخرج به من هوامد الأرض النبات، ومن زعر الجبال الأعشاب، فهي تبهج بزينة رياضها، وتزدهي بما ألبسته من ريط أزاهيرها، وحلية ما سمطت به من ناضر أنوارها، وجعل ذلك بلاغا للأنام، ورزقا للأنعام، وخرق الفجاج في آفاقها، وأقام المنار للسالكين على جواد طرقها".
ومن كلامه- رضي الله عنه- : "وكان من اقتدار جبروته، وبديع لطائف صنعته، أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتعاصف يبسا جامدا، ثم فطر منه أطباقا، ففتقها سبع سموات بعد ارتقاقها، فاستمسكت بأمره، وقامت على حده، يحملها الأخضر المثعنجر، والقمقام المسنجر، قد ذل لأمره، وأذعن لهيبته، ووقف الجاري منه لخشيته، وجبل جلاميدها ونشوز متونها وأطوارها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قرارتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست أصولها في الماء، فانهد جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في متون أقطارها، ومواضع أنصابها، فأشهق قلالها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عمادا، وأرزها فيها أوتادا، فسكنت عن حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها، فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها، فجعلها لخلقه مهادا، وبسطها لهم فراشا، فوق بحر لجي راكد لا يجري، وقائم [ ص: 201 ] لا يسري، تكركره الرياح العواصف، وتمخضه الغمام الذوارف; إن في ذلك لعبرة لمن يخشى".