(و) أنه صلى الله عليه وسلم بعث (ناسخا لما قبله من شرائع اليهود والنصارى والصابئين) أي: رافعا تلك الأحكام، ومزيلا لها، ومبينا لانتهاء أمدها، وأصل النسخ الإزالة، واليهود والنصارى فرقتان معروفتان من أتباع سيدنا موسى، وسيدنا عيسى، عليهما السلام، والصابئون قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، وقبلتهم مهب الشمالي عند منتصف النهار، وإنما خص هؤلاء - مع أن شريعته صلى الله عليه وسلم نسخت سائر الشرائع المتقدمة- لشهرة ذكرهم .
(تنبيه)
من أكبر الجاحدين لنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم اليهود، وقد ورد فيهم أنهم قوم بهت، كما في الصحيح، وهم فرقتان، الأولى امتنعت من تصديقه، لما تضمنت شريعته من نسخ بعض أحكام شريعة موسى عليه السلام، فمنهم من زعم استحالة النسخ عقلا; لما فيه من البداء على زعمهم، والبداء محال على الله تعالى، ومنهم من زعم أن موسى عليه السلام نص على أن شريعته لا تنسخ، وأنه قال: "تمسكوا بالسبت أبدا" .
الفرقة الثانية العيسوية أتباع أبي موسى الأصبهاني قالوا: هو رسول، لكن إلى العرب خاصة. وكذا قولهم: إن عيسى عليه السلام مبعوث في قومه. وبمثل هذا القول قال أيضا بعض النصارى، أما من زعم إحالة النسخ لما فيه من البداء فإن عنى به أن الله تعالى ظهر له من الحكمة ما كان خافيا فذلك محال على الله تعالى، ولا نسلم أن النسخ مستلزم لذلك; فإنه لو استلزم تصرفه في أن يمنع ما أطلقه في وقت ما [ ص: 203 ] وإطلاق ما منعه في وقت آخر ذلك للزم منع تصرفه فيهم بأفعاله، من نقلهم من الصحة إلى المرض، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الحياة إلى الموت، وعكس ذلك البداء، وإذا لم يدل شيء من ذلك على البداء فكذلك لا يدل تصرفه فيهم بالقول عليه، ثم إن من المعلوم أنه لا يمتنع في الحكمة أن يأمر الحكيم مريضا باستعمال دواء في وقت، ثم ينهاه عنه في وقت آخر لتعلق صلاحه بذلك في الحالين إن روعيت قاعدة الصلاح، والتزم في تصرفات الباري تعالى ذلك، وإلا فالله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ثم نقول: وقوع الخارق على وفق دعوى المتحدي مع العجز عن معارضته لا يخلو إما أن يدل على صدق مدعي الرسالة، أو لا، فإن لم يدل وجب ألا تقوم دلالة على صدق موسى عليه السلام، وإن دل وجب تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، وتصديق عيسى عليه السلام، وقد جاءا بالنسخ، فيثبت ، ثم من نص التوراة أن الله عز وجل قال لنوح عليه السلام - حين خرج من السفينة-: "إني جاعل كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم"، وقد حرم بعد ذلك في التوراة كثيرا منها، وفي التوراة أن من شريعة آدم عليه السلام جواز نكاح الأخت، وقد حرمتم ذلك، وقد كان في شرع يعقوب عليه السلام الجمع بين الأختين وقد حرمتم ذلك، وقد كان العمل في السبت قبل شريعة موسى عليه السلام مباحا وقد حرمتم ذلك، ولم يكن الختان واجبا لدى الولادة وقد أوجبتموه .
وأما من ادعى منع ذلك بطريق النقل فهو ما لقنه لهم ابن الراوندي، ولو كان ذلك النقل حقا لاحتج به اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بالغوا في طمس آياته بكل وجه، حتى غيروا صفته في التوراة، ولو احتجوا به لنقل، وحيث لم ينقل دل على انتفائه .