والجواب الثاني: أن نقول:
الأدلة العقلية التي تعارض السمع غير الأدلة العقلية التي يعلم بها أن الرسول صادق، وإن كان جنس المعقول يشملها.
ونحن إذا أبطلنا ما عارض السمع إنما أبطلنا نوعا مما يسمى معقولا، لم نبطل كل معقول، ولا أبطلنا المعقول الذي علم به صحة المنقول، وكان ما ذكرناه موجبا لصحة السمع وما علم به صحته من العقل.
ولا مناقضة في ذلك، ولكن حقيقته أنه قد تعارض العقل الدال على صدق الرسول والعقل المناقض لخبر الرسول، فقدمنا ذلك المعقول على هذا المعقول، كما نقدم الأدلة الدالة على صدق الرسول على الحجج الفاسدة والقادحة في نبوات الأنبياء، وهي حجج عقلية.
بل شبهات المبطلين القادحين في النبوات قد تكون أعظم من كثير من الحجج العقلية التي يعارض بها خبر الأنبياء عن أسماء الله وصفاته وأفعاله ومعاده، فإذا كان
[ ص: 174 ] تقديم الأدلة العقلية الدالة على أنهم صادقون في قولهم: إن الله أرسلهم مقدمة على ما يناقض ذلك من العقليات، كذلك تقديم هذه الأدلة العقلية المستلزمة لصدقهم فيما أخبروا به على ما يناقض ذلك من العقليات، وعاد الأمر إلى تقديم جنس من المعقولات على جنس.
وهذا متفق عليه بين العقلاء، فإن الأدلة العقلية إذا تعارضت فلا بد من تقديم بعضها على بعض، ونحن نقول: لا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان: لا عقليان ولا سمعيان، ولا سمعي وعقلي، ولكن قد ظن من لم يفهم حقيقة القولين تعارضهما لعدم فهمه لفساد أحدهما.