الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قيل: نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة السمع المخالفة له باطلة، إما لكذب الناقل عن الرسول، أو خطئه في النقل، وإما لعدم دلالة قوله على ما يخالف العقل في محل النزاع.

قيل: هذا معارض بأن يقال: نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة العقل المخالفة له باطلة لبطلان بعض مقدماتها، فإن مقدمات الأدلة العقلية المخالفة للسمع فيها من التطويل والخفاء والاشتباه والاختلاف والاضطراب ما يوجب أن يكون تطرق الفساد إليها أعظم من تطرقه إلى مقدمات الأدلة السمعية.

ومما يبين ذلك أن يقال: دلالة السمع على مواقع الإجماع مثل دلالته على موارد النزاع، فإن دلالة السمع على علم الله تعالى وقدرته وإرادته وسمعه وبصره، كدلالته على رضاه ومحبته وغضبه واستوائه على عرشه ونحو ذلك، وكذلك دلالته على عموم مشيئته وقدرته كدلالته على عموم علمه. [ ص: 175 ]

فالأدلة السمعية لم يردها من ردها لضعف فيها وفي مقدماتها، لكن لاعتقاده أنها تخالف العقل، بل كثير من الأدلة السمعية التي يردونها تكون أقوى بكثير من الأدلة السمعية التي يقبلونها، وذلك لأن تلك لم يقبلوها لكون السمع جاء بها، لكن لاعتقادهم أن العقل دل عليها، والسمع جعلوه عاضدا للعقل، وحجة على من ينازعهم من المصدقين بالسمع، لم يكن هو عمدتهم ولا أصل علمهم، كما صرح بذلك أئمة هؤلاء المعارضين لكتاب الله وسنة رسوله بآرائهم.

وإذا كان كذلك، تبين أن ردهم الأدلة السمعية المعلومة الصحة بمجرد مخالفة عقل الواحد، أو لطائفة منهم، أو مخالفة ما يسمونه عقلا لا يجوز، إلا أن يبطلوا الأدلة السمعية بالكلية، ويقولون: إنها لا تدل على شيء، وإن إخبار الرسول عما أخبر به لا يفيد التصديق بثبوت ما أخبر به، وحينئذ فما لم يكن دليلا لا يصلح أن يجعل معارضا.

والكلام هنا إنما هو لمن علم أن الرسول صادق، وأن ما أخبر به ثابت، وأن إخباره لنا بالشيء يفيد تصديقنا بثبوت ما أخبر به، فمن كان هذا معلوما له امتنع أن يجعل العقل مقدما على خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يضطره الأمر إلى أن يجعل الرسول يكذب أو يخطئ تارة في الخبريات، ويصيب أو يخطئ أخرى في الطلبيات، وهذا تكذيب للرسول، وإبطال لدلالة السمع، وسد لطريق العلم بما أخبر به الأنبياء والمرسلون، وتكذيب بالكتاب وبما أرسل الله تعالى به رسله. [ ص: 176 ]

وغايته إن أحسن المقال: أن يجعل الرسول مخبرا بالأمور على خلاف حقائقها لأجل نفع العامة.

ثم إذا قال ذلك امتنع أن يستدل بخبر الرسول على شيء، فعاد الأمر جذعا، لأنه إذا جوز على خبر الرسول التلبيس كان كتجويزه عليه الكذب، وحينئذ فلا يكون مجرد إخبار الرسول موجبا للعلم بثبوت ما أخبر به، وهذا: وإن كان زندقة وكفرا وإلحادا فهو باطل في نفسه، كما قد بين في غير هذا الموضع.

التالي السابق


الخدمات العلمية