ثم لا يخلو الشخص إما أن يكون مقرا بخبر نبوة الأنبياء، وإما أن يكون غير مقر، فإن كان غير مقر بذلك لم نتكلم منه في
تعارض الدليل العقلي والشرعي، فإن تعارضهما إنما يكون بعد الإقرار بصحة كل منهما لو تجرد عن المعارض، فمن لم يقر بصحة دليل عقلي البتة لم يخاطب في معارضة الدليل العقلي والشرعي، وكذلك من لم يقر بدليل شرعي لم يخاطب في هذا التعارض.
ومن لم يقر بالأنبياء لم يستفد من خبرهم دليلا شرعيا، فهذا يتكلم معه في تثبيت النبوات، فإذا ثبتت فحينئذ يثبت الدليل الشرعي، وحينئذ فيجب الإقرار بأن خبر
[ ص: 181 ] الأنبياء يوجب العلم بثبوت ما أخبروا به، ومن جوز أن يكون في نفس الأمر معارض ينفي ما دلت عليه أخبارهم امتنع أن يعلم بخبرهم شيئا، فإنه ما من خبر أخبروا به ولم يعلم هو ثبوته بعقله إلا وهو يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل يناقضه، فلا يعلم شيئا مما أخبروا به بخبرهم، فلا يكون مقرا بنبوتهم، ولا يكون عنده شيء يعلم بالسمع وحده، وهم قد أقروا بأن العلوم ثلاثة: منها ما يعلم بالسمع وحده، ومنها ما يعلم بالعقل وحده، ومنها ما يعلم بهما.
وأيضا، فقد قامت الأدلة العقلية اليقينية على نبوة الأنبياء، وأنهم قد يعلمون ما يعلمونه بخبر الله وملائكته، تارة بكلام يسمعونه من الله كما سمع
موسى بن عمران، وتارة بملائكة تخبرهم عن الله، وتارة بوحي يوحيه الله، كما قال تعالى:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء [الشورى: 51] .
فتبين أن تجويزهم أن يكون في نفس الأمر دليل يناقض السمع يوجب أن لا يكون في نفس الأمر دليل سمعي يعلم به مخبره، وهذا مما تبين به تناقضهم ـ حيث أثبتوا الأدلة السمعية، ثم قالوا ما يوجب إبطالها، حيث أثبتوا الأدلة العقلية، ثم قالوا ما يوجب تناقضها، فإن العقل يعلم به صحة الأدلة السمعية، فمتى بطلت بطل العقل الدال على صحة السمع، والدليل مستلزم للمدلول، ومتى
[ ص: 182 ] انتفى اللازم الذي هو المدلول انتفى ملزومه الذي هو الدليل، فيبطل العقل ـ وتناقضهم حيث أقروا بنبوات الأنبياء ثم قالوا ما يوجب بطلانها.