الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وطرق العلم ثلاثة: الحس، والعقل، والمركب منهما كالخبر.

فمن الأمور ما لا يمكن علمه إلا بالخبر، كما يعلمه كل شخص بأخبار الصادقين كالخبر المتواتر، وما يعلم بخبر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

وهذا التقسيم يجب الإقرار به، وقد قامت الأدلة اليقينية على نبوات الأنبياء، وأنهم قد يعلمون بالخبر ما لا يعلم إلا بالخبر، وكذلك يعلمون غيرهم بخبرهم. [ ص: 179 ]

ونفس النبوة تتضمن الخبر، فإن النبوة مشتقة من الإنباء وهو الإخبار بالمغيب، فالنبي يخبر بالمغيب ويخبرنا بالغيب، ويمتنع أن يقوم دليل صحيح على أن كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون الخبر، فلا يمكن أن يجزم بأن كل ما أخبرت به الأنبياء هو منتف.

فإنه يمتنع أن يقوم دليل على هذا النفي العام، ويمتنع أن يقول القائل: كل ما أخبر به الأنبياء يمكن غيرهم أن يعرفه بدون خبرهم، ولهذا كان أكمل الأمم علما المقرون بالطرق الحسية والعقلية والخبرية، فمن كذب بطريق منها فاته من العلوم بحسب ما كذب به من تلك الطرق.

والمتفلسفة الذين أثبتوا النبوات على وجه يوافق أصولهم الفاسدة ـ كابن سينا وأمثاله ـ لم يقروا بأن الأنبياء يعلمون ما يعلمونه بخبر يأتيهم عن الله، لا بخبر ملك ولا غيره، بل زعموا أنهم يعلمونه بقوة عقلية، لكونهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس، ويسمون ذلك القوة القدسية، فحصروا علوم الأنبياء في ذلك.

وكان حقيقة قولهم: أن الأنبياء من جنس غيرهم، وأنهم لم يعلموا شيئا بالخبر، ولهذا صار هؤلاء لا يستفيدون شيئا بخبر الأنبياء، بل يقولون: إنهم خاطبوا الناس بطريق التخييل لمنفعة الجمهور، وحقيقة قولهم: أنهم كذبوا [ ص: 180 ] لمصلحة الجمهور، وهؤلاء في الحقيقة يكذبون الرسل، فنتكلم معهم في تحقيق النبوة على الوجه الحق، لا في معارضة العقل والشرع.

وهذا الذي ذكرته مما صرح به فضلاؤهم، يقولون: إن الرسل إنما ينتفع بخبرهم الجمهور في التخييل، لا ينتفع بخبرهم أحد من العامة والخاصة في معرفة الغيب، بل الخاصة عندهم تعلم ذلك بالعقل المناقض لأخبار الأنبياء، والعامة لا تعلم ذلك لا بعقل ولا خبر، والنبوة إنما فائدتها تخييل ما يخبرون به للجمهور، كما يصرح بذلك الفارابي وابن سينا وأتباعهما.

التالي السابق


الخدمات العلمية