وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي أيضا فيما ألحقه بكتاب "شعار الدين وبراهين المسلمين" (الكلام المكروه الذي زجر عنه العلماء وعابوه، هو التجرد
[ ص: 317 ] في مذهب الكلام، والتعمق فيه على الوجه الذي يذهب إليه المتكلمون.
وذلك أنهم
ادعوا الوقوف على حقائق الأمور من جهة العقول، وزعموا أن شيئا من المعلومات لا يذهب عليهم علمه، ولا يعجزهم إدراكه، على سبيل التحديد والتحقيق) .
قلت: هذا هو حقيقة قول من لم يجعل السمعيات تفيد العلم، إنما يحصل العلم عنده من جهة العقل فقط، وقول من يظن أنه بمجرد عقله يعرف ما جاءت به الشرائع.
ولهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في أول رسالته في السنة التي رواها عنه
عبدوس بن مالك العطار: (ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول) ، فبين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعارض بضرب الأمثال [له]، ولا يدركه كل أحد بقياس، ولا يحتاج أن يثبته بقياس، بل هو ثابت بنفسه، وليس كل ما ثبت يكون له نظير، وما لا نظير له لا قياس فيه، فلا يحتاج المنصوص خبرا وأمرا إلى قياس، بخلاف من أراد أن ينال كل ما جاءت به الرسل بعقله، ويتلقاه من طريق القياس،
[ ص: 318 ] كالقياس العقلي المنطقي، وهو قياس الشمول أو قياس التمثيل ونحو ذلك، فإن كلا من هذا وهذا يسمى قياسا.
وقد
تنازع الناس في اسم القياس: هل هو حقيقة في قياس التمثيل، مجاز في قياس الشمول؟ كما يقوله
nindex.php?page=showalam&ids=14847 [أبو حامد] الغزالي nindex.php?page=showalam&ids=15301وأبو محمد المقدسي وغيرهما، أو هو حقيقة في قياس الشمول مجاز في قياس التمثيل؟ كما يقوله
nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد بن حزم وغيره، أو القياس حقيقة فيهما؟ كما يقوله الجمهور. على ثلاثة أقوال.
وأيضا فهم متنازعون في الجنسين: أيهما هو الذي يوصل إلى العلم؟ كثير من الناس من أهل النطق اليوناني ونحوهم يزعم أن الموصل إلى العلم هو قياس الشمول فقط دون قياس التمثيل، وكثير من أهل الكلام يرجح قياس التمثيل، ويقول: إن قياسهم المنطقي قياس الشمول قليل الفائدة أو عديمها.
وحقيقة الأمر أن القياسين متلازمان، فكل قياس شمول هو متضمن لتمثيل، وكل قياس تمثيل هو متضمن لشمول، فإن القايس قياس التمثيل لا بد أن يعلق الحكم بالوصف المشترك، فإذا قال: النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر، فكان حراما كخمر العنب، فقد علق
[ ص: 319 ] التحريم بالسكر، ولا بد له من دليل يدل على تعلق الحكم بذلك الوصف المشترك: إما بنص، أو إجماع، أوغير ذلك من الطرق الدالة على أن الحكم معلل بذلك الوصف المشترك بين الأصل والفرع، وهو الذي يسمى جواب المطالبة، فإن القايس إذا قاس توجه عليه منوع، أحدها: منع الحكم في الأصل. والثاني: منع ثبوت الوصف الذي علق به الحكم في الأصل. والثالث: منع وجوده في الفرع. وهذه الأسولة الثلاثة قد يسهل جوابها، والرابع: منع علة الوصف، وهو منع كون الحكم متعلقا به، وهذا أعظم الأسولة.
وذلك الوصف الذي علق به الحكم، يسمونه: علة، وسببا، وداعيا، وموجبا، ومناطا، وباعثا، وأمارة، وعلامة، ومشتركا، وأمثال ذلك. ثم إذا أراد المستدل أن يصوغ هذا قياس شمول، قال: النبيذ مسكر، كل مسكر حرام، ولا بد له من إثبات هذه القضية الكبرى، وهو قوله: كل مسكر حرام، كما يحتاج الأول إلى إثبات كون السكر هو مناط التحريم، والذي جعله الأول مناط الحكم، جعله الثاني الحد الأوسط المتكرر في المقدمتين، ولا بد لكل منهما من الدلالة على ذلك، وكل من القياسين يتضمن حكما عاما كليا، ولهذا اتفق أرباب القياس الشمولي المنطقي على أنه لا بد فيه من [قضية كلية،
[ ص: 320 ] واتفق أرباب القياس التمثيلي على أنه لا بد فيه من] مشترك بين الأصل والفرع، والمشترك هو الكلي، لكن في قياس الشمول لا يجب أن يبين ثبوت الكلي في صورة من الصور المعينة، بل يقول الرجل: السواد والبياض لا يجتمعان، وإن لم يعين سوادا أو بياضا معينين، ويقول: الكل أعظم من الجزء، ولا يعين شيئا.
وأما
قياس التمثيل فلا بد فيه من تعيين أصل يقاس به الفرع ويمثل به، فيقال: هذا السواد وهذا البياض لا يجتمعان، فكذلك سائر السواد والبياض. وهذا الكل أعظم من هذا الجزء، وهلم جرا.
ويقول أهل التمثيل: هذا أنفع لأن الكليات لا وجود لها في الأعيان، إنما وجودها في الأذهان، فإذا مثل الفرع بمعين ثابت في الخارج أفاد ذلك معرفة شيء موجود معين، بخلاف الكلي الذي لا تتمثل أعيانه في الخارج.
ولهذا كل متكلم في كليات مقدرة لا يتصور أعيانها الموجودة في الخارج، فإما أن يكون كلامه قليل الفائدة، بل عديمها، وإما أن يكون كثير الخطإ والغلط، وإما أن يجتمع فيه الأمران. ويقولون أيضا: إن العلم بكل واحد [واحد] من الأعيان يحصل بما به يحصل المعين
[ ص: 321 ] الآخر، فإنا إذا قلنا: الكل أعظم من الجزء، كان علمنا بأن هذا الكل أعظم من هذا الجزء، كعلمنا بذلك في الكل الآخر، فلم نستفد بالقضية الكلية علما بمعين، إلا والعلم بذلك المعين مستغن عن القضية الكلية، ففيه تطويل بلا فائدة.
ويقول أهل
قياس الشمول: بل قياس التمثيل لا يفيد إلا بتوسط تعليق الحكم بالمشترك، وهو الحد الأوسط، فلا بد فيه من قضية كلية أيضا، لكن قد يدعي القايس الممثل تعليق الحكم بالمشترك بمجرد التمثيل، ولا يقيم دليلا على أن الوصف المشترك الجامع بين الأصل والفرع هو مناط الحكم الذي هو الحد الأوسط، وربما أثبت ذلك بطرق لا تفيد العلم، كالاستقراء الناقص الذي هو من نوع السبر والتقسيم ونحو ذلك، ففي كل من القياسين قضية كلية، لكن صاحب الشمول يثبتها وصاحب التمثيل لا يثبتها.
قال أصحاب التمثيل: بل صاحب الشمول لا يمكنه إثباته إلا بطريق التمثيل، وإلا فإذا نازعه المنازع في الشمول والعموم، لم يكن له طريق إلا ذكر الأعيان بأن يقول: هذا الكل أعظم من هذا
[ ص: 322 ] الجزء، وإذا قيل: بل العقل يقضي بالقضية الكلية قضاء عاما.
قيل: إنما كان ذاك بواسطة علمه بالجزئيات، فيعود إلى التمثيل.
ولهذا توجد عامة قضاياهم الكلية منتقضة باطلة، لأنهم يدعون فيها العموم، بناء على ما عرفوه من التجارب والعادات، وتكون تلك منتقضة في نفس الأمر كما هو الواقع، فإن من قال: كل نار فإنها تحرق ما لاقته، إنما قاله لأجل إحساسه بما أحس به من جزئيات هذا الكلي، وقد انتقض ذلك عليه بملاقاتها للياقوت والسمندل وغير ذلك، وبسط الكلام في هذا له موضع آخر. والمقصود هنا التنبيه على أن كل واحد من قياس التمثيل والشمول يفيد أمرا كليا مطلقا بواسطته يحصل العلم بالمعينات الموجودة في الخارج، ثم قد يكون العلم بتلك المعينات غنيا عن ذينك القياسين، والمعين الذي لا نظير به لا يعلم لا بهذا القياس ولا بهذا القياس، وقد تكون الكلية منتقضة، فالقياس لا يحصل بنفسه العلم بالمعينات، وقد لا يحصل العلم به مطلقا، وقد يكون كثير الانتقاض، بخلاف النصوص النبوية، فإنها لا تكون إلا حقا، وهي تخبر عن المعينات على ما هي عليه.