وأما الأمور الإلهية والمعاد ونحو ذلك، فيزعمون أنهم لم يخبروا عنها بما يحصل به العلم، ولكن خاطبوا الناس فيه بطريق التخييل وضرب المثل الذي ينتفع به الجمهور. وحقيقة قولهم هو ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي من أنهم لا يجعلون خبر الأنبياء طريقا إلى العلم، وقد ذكرنا من كلام من دخل معهم في هذا الأصل الفاسد، من المنتسبين إلى المسلمين، ما تبين به هذا الأصل، وبينا من ضلالهم وكذبهم في هذا القول ما قد بسط في موضعه.
[ ص: 334 ]
وحقيقة ما يزعمونه في المعقول إنما هو أمور ذهنية كلية، قائمة في الذهن، لا حقيقة لها في الخارج.
وما يثبتونه من المجردات العقليات، بل وواجب الوجود الذي يثبتونه وغير ذلك، يعود إلى هذا. ومن هنا استطال عليهم إخوانهم
الفلاسفة الطبيعية
والدهرية، فإن أولئك لم ينكروا مثل هذه العقليات، ولكن أنكروا وجود هذه في الخارج، وادعوا أن كل موجود في الخارج فلا بد أن يمكن إحساسه.
والفريقان جميعا كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله من الإخبار بالغيب إلا من كان منهم من
الصابئة الحنفاء الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا، فأولئك هم سعداء في الآخرة.
كما قال تعالى:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [سورة البقرة: 62].
وأما
الصابئة المشركون، الذين يعبدون الكواكب والأوثان، ونحوهم من
الفلاسفة المشركين، فهؤلاء كفار كسائر المشركين.
والفلسفة اليونانية - فلسفة المشائين - عامتها من هذه الفلسفة، فإن
اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان، وفي مقالاتهم حق وباطل، كما في مقالات مشركي العرب
والهند وغيرهم من أصناف المشركين، وهذا مبسوط في موضعه.
[ ص: 335 ]
وأما ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي من القياس والاعتبار في الأحكام الشرعية. وأن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج إليه الناس نصا. فهذا كلام في
القياس العلمي الشرعي، وهو مبسوط في موضعه.
والناس في هذا بين إفراط وتفريط، كما هم كذلك في
القياس العقلي الخبري. فطائفة تزعم أن أكثر الحوادث لا تتناولها النصوص، بل إنما تعلم بالقياس.
وطائفة بآرائهم يزعمون أن القياس كله باطل، حتى يردون
الاستدلال المسمى بتنقيح المناط، ويردون
قياس الأولى وفحوى الخطاب، والعلة المنصوصة، ويرجعون إلى العموم واستصحاب الحال.
وكل من الطائفتين مخطئة غالطة، فإن الطائفة الأولى بخست الكتاب والسنة حقهما، وقصرت في معرفتهما وفهمهما، واعتصمت بأنواع من الأقيسة الطردية التي لا تغني من الحق شيئا، أو بتقليد قول من لا تعرف حجة قائله.
وكثيرا ما تجد هؤلاء إذا فتشت حجتهم إنما هي مجرد دعوى، بأن يظن أحدهم أن الحكم الثابت في الأصل معلق بالوصف المشترك، من غير دليل يدله على ذلك، بل بمجرد اشتباه قام في نفسه،
[ ص: 336 ] أو بمجرد استحسان ورأي ظن به أن مثل ذلك الحكم ينبغي تعليقه بذلك الوصف، وأحدهم يبني الباب على مثل هذه القواعد، التي متى حوقق عليها سقط بناؤه، وربما تمسكوا من الآثار الضعيفة بما يعلم أهل المعرفة بالأثر أنه من الموضوع المكذوب، فضلا عن أن يكون من كلام المعصوم. وقد يتمسكون بما يظهر لهم من ألفاظ المعصوم، ولا تكون دالة على ما فهموه.
وأما الطائفة الثانية فتعتصم من استصحاب الحال ونفي الحكم لعدم دليله - في زعم أحدهم - مع ظهور الأدلة الشرعية بما يبين به فساد قولها، ويفرق بين المتماثلين تفريقا لا يأتي به عاقل، فضلا عن نبي معصوم، وتجمد على ما تراه ظاهر النص من خطئها في فهم النص ومراد قائله، وتسلب الشريعة حكمها ومحاسنها ومعانيها، وتضيف إلى الله ورسوله من التحكم المنافي للعدل والإحسان، ما يجب أن ينزه عنه الملك العادل، والرجل العاقل.