قلت: المقصود أن الطائفة الأولى
الذين قالوا: إن العامة عليهم العلم، قالوا: إنه قد يحصل لهم ضرورة، وقد يحصل بالنظر. والطائفة الثانية الذين اكتفوا بالاعتقاد، اعترفوا بأن من الناس من يحصل له المعرفة ضرورة، كسادات
الصوفية. وأما ذكره من أن الحجاج الذي في القرآن يكتفي به العامي، وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج، فهذا الكلام يقوله مثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام الجاهلين بحقائق ما جاء به التنزيل، وما بعث به الرسول، حتى قد يقول بعضهم: إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن، وهؤلاء جهلهم بمعاني الأدلة البرهانية التي دل عليها القرآن، كجهلهم بحقائق ما أخبر به القرآن، بل جهلهم بحقائق ما دل عليه الشرع من الدلائل العقلية والمطالب الخبرية، أعظم من جهلهم بما سلكوه من الطرق البدعية التي سموها عقلية.
وقد رأيت في كلام هذا الرجل وأمثاله من ذلك عجائب يخالفون بها صريح المعقول، مع مخالفتهم لصحيح المنقول، ونقص علمهم وإيمانهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع.
[ ص: 362 ]
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق التي جاء بها القرآن هي الطرق البرهانية التي تحصل العلم في المطالب الإلهية، مثال ذلك أنه يستدل بقياس الأولى البرهاني، لا يستدل بقياس التمثيل والتعديل، وذلك أن الله تعالى ليس مماثلا لشيء من الموجودات، فلا يمكن أن يستعمل في حقه قياس شمول منطقي تستوي أفراده في الحكم، كما لا يستعمل في حقه قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، فإنه سبحانه لا مثل له، وإنما يستعمل في حقه من هذا وهذا قياس الأولى، مثل أن يقال: كل نقص ينزه عنه مخلوق من المخلوقات، فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه، وكل كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات، فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، لأنه سبحانه واجب الوجود، فوجوده أكمل من الوجود الممكن من كل وجه، ولأنه مبدع الممكنات وخالقها، فكل كمال لها فهو منه وهو معطيه، والذي خلق الكمال وأبدعه وأعطاه أحق بأن يكون له الكمال، كما يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة.
وكان المشركون يقولون: إن الملائكة بنات الله، كما حكى الله ذلك عنهم بقوله:
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [سورة الزخرف: 19]، وهم مع هذا يجعلون البنات نقصا وعيبا، ويرون الذكر كمالا، فقال لهم: كيف تصفون ربكم بأنقص الوصفين، وأنتم مع هذا لا ترضون هذا لأنفسكم؟ فهذا احتجاج عليه بطريق
[ ص: 363 ] الأولى في بطلان قولهم: إن له البنات ولهم البنين، لم يحتج بذلك على نفي الولد مطلقا كما يقول من يفتري على القرآن.
قال تعالى:
ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون [سورة النحل: 56]،
ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم إلى قوله تعالى:
ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون [سورة النحل: 57 -62].
فبين سبحانه [وتعالى] أنهم يفضلون أنفسهم على ربهم، ويجعلون له ما يكرهون، ويقولون بوصفهم الكذب أن لهم الحسنى، وأنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وأن ما جعلوا لله نظيره إذا بشر به أحدهم ظل وجهه مسودا يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون. فبين سبحانه أن هذا الحكم حكم سيء.
كما قال تعالى في الآية الأخرى:
ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [سورة النجم: 21 - 22]، أي قسمة جائرة. وقال في
[ ص: 364 ] الآية الأخرى:
وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون [سورة الزخرف: 15 - 19]، فقال تعالى مقيما للحجة مخاطبا باستفهام الإنكار المبين لبطلان ما أنكره وامتناعه، وأن ذلك مستقر في الفطر:
أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين [سورة الزخرف: 16]، فإنه لو قدر على سبيل الفرض أن يتخذ ولدا، أكان يتخذ مما يخلق بنات ويصفيكم بالبنين؟! أي يجعل البنين صافين لكم لا يشرككم في اتخاذ البنين، بل تكونون أنتم مخصوصون بخير الصنفين، وهو سبحانه مخصوص بالصنف المنقوص؟!
ثم ذكر عنهم ما يبين فرط نقص البنات عندهم فقال:
وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [سورة الزخرف: 17]، وهن الإناث، كما ذكر ذلك في سورة النحل، أي بالذي جعله مثلا للرحمن وهن البنات اللاتي جعل للرحمن مثلهن فضربه للرحمن مثلا أي جعله له مثلا حيث مثل به الملائكة الذين جعلهم بنات الله، فجعلهن يماثلن البنات اللاتي [جعل للرحمن مثلهن، فضرب للرحمن - أي
[ ص: 365 ] جعل له - مثلا، يماثل البنات اللاتي] إذا بشر أحدهم بها ظل وجهه مسودا وهو كظيم.
ثم بين نقص النساء فقال:
أومن ينشأ في الحلية [سورة الزخرف: 18]، وهن النساء تربين في الحلية:
وهو في الخصام غير مبين [سورة الزخرف: 18]، وهي المرأة لا تكاد تتكلم بحجة لها إلا كانت عليها، فبين أنهن من نقصهن يكملن بالحلية التي تزينهن في أعين الرجال، وهي لا تبين في الخصام.
وعدم البيان صفة نقص، فإن الله ميز الإنسان بالنطق والبيان، الذي فضله به على سائر الحيوان، كما قال تعالى:
الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان [سورة الرحمن: 1 - 4]، وقال:
اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [سورة العلق: 3 - 5].
وأهل المنطق يقولون: الإنسان هو الحيوان الناطق، ولما كان هذا أظهر صفاته قال تعالى:
فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [سورة الذاريات: 23]، وقد قال تعالى:
أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [سورة النجم: 19 - 20]، وهذه هي الأصنام الكبرى التي كانت بمدائن
الحجاز، فإنه كانت
[ ص: 366 ] اللات لأهل
المدينة، والعزى لأهل
مكة، ومناة الثالثة الأخرى لأهل
الطائف.
وهذه كلها مؤنثة، كما قال في الآية الأخرى:
إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [سورة النساء: 117].
وهذه جعلوها شركاء له تعبد من دونه، وسموها بأسمائه مع التأنيث، كما قيل: إن اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من مني يمنى إذا قدر، وكانوا يسمونها الربة، وهم سموها بهذه الأسماء التي فيها وصفها لها بالإلهية والعزة والتقدير والربوبية، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، أي من كتاب وحجة، فإن الله تعالى لم يأمر أحدا بأن يعبد أحدا غيره، ولم يجعل لغيره شركاء في إلهيته.
كما قال تعالى:
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [سورة الزخرف: 45].
[ ص: 367 ] وهو سبحانه دائما ينزه نفسه في كتابه العزيز عن الشريك والولد، كما ذكره في سورة النحل، حيث قال:
ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم [سورة النحل: 56] الآية، وما بعدها.
وقال:
وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا [سورة الإسراء: 111].
وقال تعالى:
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك [سورة الفرقان: 1 ، 2].
وقال [تعالى]:
قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [سورة الإخلاص].
وقال:
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون [سورة الأنعام: 100].
وقالت الجن:
وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا [سورة الجن: 3].
وإذا أراد أن يحتج سبحانه على نفي الولد مطلقا لم يذكر هذه الحجة التي لن يفهم وجهها من لم يعرف ما في القرآن من الحجاج، وظن هو
[ ص: 368 ] وأمثاله من أهل الضلال أن حجاجهم أكمل من حجاج القرآن، وأنهم حققوا أصول الدين أعظم من تحقيق الصحابة والتابعين.
بل يذكر سبحانه الحجة المناسبة للمطلوب كقوله تعالى:
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [سورة البقرة: 116 - 117].
وقال تعالى:
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم [سورة الأنعام: 100 - 101].
والكلام على هذه الآيات وما فيها من الأسرار مذكور في غير هذا الموضع، وقد بين هناك أن هؤلاء الآيات تضمنت إبطال قول المبطلين من المشركين
والصابئين وأهل الكتاب، وتضمنت إبطال ما كان يقوله مشركو العرب، وما يقوله النصارى، وما يقوله مشركو
الصابئة وفلاسفتهم، الذين يقولون بتولد العقول، أو العقول والنفوس عنه.
ومن أراد الجمع بين كلامهم وبين النبوات سماها ملائكة، ويقول: العقل كالذكر، والنفس كالأنثى. فهؤلاء خرقوا له بنين وبنات بغير علم.