قال
عبد الوهاب: (وأيضا فإن الله قال في حق المؤمنين:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان [سورة المجادلة: 58]، فاعلم أن
الإيمان من تفضله، وكتبه في القلوب. فأي عمل للعقل بعد ذلك؟ وإنما العقل بمنزلة القارئ للمكتوب، فإن كان في القلب شيء مكتوب قرأه العقل، كالمسطور يدركه النظر. وإذا لم يكن في القلوب شيء مكتوب لم يفد العقل فائدة). قال: (ثم نقول: هل نال الأنبياء النبوة بعقولهم؟ أم باصطفاء الله لهم وإرساله إليهم الملائكة؟ فإن قال: بعقولهم. فقد أكذبه الله تعالى بقوله:
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس [سورة المجادلة: 75]،
[ ص: 25 ] وإذا ثبت أن
العقل لم يفد الرسالة والنبوة، وإنما ذلك اختصاص من الله لهم، كذلك معرفة الله والإيمان به ليس للعقل في ذلك شيء. وإنما العقل شرط في التكليف والخطاب بالشرع، كالحياة والوجود).
قال والده
أبو الفرج: قال بعض أصحابنا: عرف بنور الهداية. وقال غيره: عرفنا نفسه بتعرفه، والجميع واحد.
قال: (وقد روي ذلك عن جماعة من السلف الصالح، فسئل بعضهم: أعرفت الله
بمحمد أم عرفت الله به؟ فقال: عرفت الله به، وعرفت
محمدا بالله، ولو عرفت الله
بمحمد لكانت المنة
لمحمد دون الله).
قلت: هذه الطريقة تصلح أن تكون ردا على
القدرية من
المعتزلة ونحوهم، الذين يقولون: إن ما يحصل باختيار العبد من علم وعمل فإنه هو الذي أحدثه بدون معونة من الله له، ولا هدى يسره له خصه به دون الكافر. بل يجعلون المؤمن والكافر سواء فيما فعل الله بهما من أسباب الهداية، حيث أرسل الرسول إليهما جميعا، وخلق لكل منهما استطاعة يتمكن بها من الإيمان، وأزاح علة كل منهما.
بل يقولون: إنه يجب عليه أن يفعل بكل منهما من اللطف الذي يؤمن به اختيارا كل ما يقدر عليه، فيفعل به الأصلح في دينه، وأنه ليس في المقدور مما يؤمن به اختيار شيء، ولكن المؤمنون
-كأبي بكر nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي- آمنا بأنفسهما، والكفار
-كأبي لهب وأبي جهل- كفرا بأنفسهما، من غير أن يختص الله المؤمن بأسباب تقتضي إيمانه؛ ولهذا قال لهم الناس: إذا كان الأمر كذلك، وهما مستويان في أسباب الإيمان، فلم اختص أحدهما
[ ص: 26 ] بوجود الإيمان منه دون الآخر؟ وإذا قالوا بمشيئته وقدرته، قالوا لهم: إن كان للكافر مثل ذلك بطل الاختصاص، وإن لم يكن له مثل ذلك كان المؤمن مخصوصا بأسباب من الهداية لم يحصل مثلها للكافر.