الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فإن الله يسأل الهدى إلى الصراط المستقيم في كل صلاة، والهدى المشترك بين المؤمن والكافر قد فعله، بل يجب عنده عليه فعله، فما المطلوب بالدعاء بعد ذلك؟

وأيضا فإن الله تعالى قال: واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان [سورة الحجرات: 7] الآية، فبين أنه حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.

والقدرية من المعتزلة والشيعة تتأول ذلك بأنه حبب الإيمان إلى كل مكلف وزينه بما أظهره من دلائل حسنه، وكره الكفر بما أظهر من دلائل قبحه.

فيقال لهم: أول الآية وآخرها خطاب للمؤمنين، بقوله: واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [سورة الحجرات: 7] وقال في آخرها: أولئك هم الراشدون فبين أن الذين حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر هم الراشدون، والكفار ليسوا براشدين، ولو كان قد فعل بالكفار كما فعل بهم، لم يصح أن يمتن عليهم بما يشعر اختصاصهم به. [ ص: 27 ]

كما قال في أثناء السورة: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [سورة الحجرات: 17]. فلو كان المراد بالهداية الهداية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، لم يقل: إن كنتم صادقين. فإن تلك حاصلة سواء كانوا صادقين في قولهم أمناء، أو لم يكونوا صادقين.

وهذا كقوله: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه [سورة البقرة: 213]، وأمثال ذلك مما يبين اختصاص المؤمنين بهدى ليس للكفار.

كقوله: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا [سورة الأنعام: 125].

وقوله: فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة [سورة الأعراف: 30].

وقوله: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [سورة الشورى: 52]، ومثل هذا في القرآن كثير، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، ولكن المقصود التنبيه على المأخذ.

فالمعتزلة يقولون: إن ما يحصل بكسب العبد واختياره من المعرفة ليس مما جعله الله في قلبه. ويقولون: إن المعرفة الواجبة لا تكون مما يقذفها الله في قلب العبد؛ لأن الواجب لا يكون إلا مقدورا للعبد. ومقدورات العباد عندهم لا يفعلها الله ولا يحدثها، ولا له عليها قدرة. وقد يقولون: إنه لا يستحق الثواب إلا على مقدوره. [ ص: 28 ]

ولهذا يقول من يقول منهم: إنه يمتنع أن تكون ضرورية؛ لأنه حينئذ لا يستحق عليها الثواب. لكن هنا هم متنازعون فيه؛ لإمكان أن يكون الثواب على ما سوى ذلك، كما أن الحياة والقدرة على النظر والعلوم الضرورية هي من خلق الله عندهم، ولا ثواب فيه ولا أجر لها.

ولهذا جوز أهل الإثبات أن تقع المعارف النظرية ضرورية وبالعكس؛ ولأن ذلك لا ينافي ما وعد الله به من الثواب عندهم، بل يجوز عندهم أن يجعل الله في قلب العبد من معرفته ومحبته ما يحصل بغير كسبه، ويثيبه عليه أعظم الثواب.

التالي السابق


الخدمات العلمية