وإذا قال القائل: المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحادا على التعاقب.
قيل له: فالمستقبلات تدخل في الوجود وهي لا تتناهى آحادا على التعاقب، لكن لم تدخل بعد، وذاك دخل ثم خرج.
وقوله: (يستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد) هو محل النزاع إذا قصره على الماضي، وإن كان اللفظ عاما فهو خلاف ما سلمه، بل هؤلاء يقولون: يجب أن يدخل
[ ص: 185 ] في الوجود من مقدورات الباري ما لا يتناهى وإلا لزم أن يكون الرب لم يكن قادرا ثم صار قادرا، أو بالعكس من غير حدوث أمر أوجب انتقاله من القدرة إلى العجز وبالعكس. وهذا فيه سلب للرب صفة الكمال، وإثبات التغير بلا سبب يقتضيه، وذلك مخالفة لصريح المعقول والمنقول.
ولهذا كان ما أنكره المسلمون على هؤلاء قولهم: إن الرب في الأزل لم يكن قادرا ثم صار قادرا، وهو مما استحل به المسلمون لعنة بعض من أضيف إليه ذلك من أهل الكلام، لا سيما من يسلم أن الرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال، فإنه يجب أن يصفه بأنه لم يزل ولا يزال قادرا، والقدرة لا تكون إلا على ممكن، فلزم إمكان فعله فيما لم يزل ولا يزال.
وقول القائل من هؤلاء: إنه كان قادرا في الأزل على ما لم يزل، كلام متناقض. فإنه يقال لهم: حين كان قادرا: هل كان الفعل ممكنا؟ فلا بد أن يقولوا: لا، فإنه قولهم.
فيقال لهم: كيف وصف بالقدرة مع امتناع شيء من المقدور؟ فعلم أنه مع امتناع الفعل يمتنع أن يقال: إنه قادر على الفعل.
وأما قوله: (إثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض). فيقولون: هو تناقض إذا نفى الأولية عن نفس ما له أول، وهو كل واحد واحد من الحوادث. أما إذا نفى الأولية عما لم تثبت له أولية، وهو نوع الحوادث، لم يتناقض كما تقدم.
[ ص: 186 ]