هذا كلامه ولقائل أن يقول: هذا الكلام قد كشف فيه قوله ومذهبه، وقد تبين في ذلك من التناقض والفساد ما يطول ذكره بالوصف والتعداد. وذلك من وجوه:
أحدها:
قول أرسطو: إن المحرك الأول هو علة كل ما في الكون بالتشوق، والمتشوق إليه إنما تشوق بجهة طبيعته لا إرادته، ولأنه قد يكون المعشوق المتشوق إليه نائما أو غير ذي إرادة، وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له، إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها، على أفضل ما يمكن أن يوجد شيء عليه، فإذن ليس يؤثر أثرا، ولا يفعل فعلا، لا عن إرادتها، ولا بدون إرادتها إلى آخر كلامه.
فيقال له: قد صرحتم في كلامكم بأن الأول ليس له فعل بإرادة، ولا بدون إرادة، ولا تأثير في العالم أصلا إلا من جهة كونه معشوقا متشوقا إليه، والمعشوق المتشوق إليه لا يجب أن يكون شاعرا بالعاشق، ولا مريدا له، ولا قادرا على فعل يفعله به، بل الجمادات تحب ويشتاق إليها، كما
[ ص: 297 ] يشتاق الجائع إلى الطعام، والعطشان إلى الشراب، والبردان إلى الثياب، والضاحي في الشمس إلى الظلال.
ثم إنكم مع هذا لم تذكروا على ذلك دليلا صحيحا، ولكن نحن نخاطبكم بما أقررتم به.
فيقال: إذا كان بهذه المثابة، لم يكن علة للعالم، ولا مبدأ له، ولا فاعلا له، ولا مؤثرا فيه أثرا، فبطل قولكم: إنه علة العلل، وإنه المبدأ الأول.
قولكم: إنه علة طبيعية للعالم ومتممة له.
غاية ما في الباب أن العالم يكون محتاجا إليه، من كونه مشتاقا إليه، والشيء المشتاق إليه لا يجب أن يكون هو المبدع المشتاق ولا الفاعل له، ولا يكون مؤثرا فيه، كما اعترفتم به، وكما هو معلوم لكل عاقل.
فإن كون الشيء علة غائية، لا يستلزم أن يكون علة فاعلية، لا سيما وإنما هو علية من جهة أن الفلك يحب التشبه به، فهذا مع ما فيه من جحد وجود واجب الوجود المبدع للعالم، فيه من تناقض قولكم ما قد تبين.
وسنبين إن شاء الله فرقهم بين العلة الأولى وبين العالم القديم بأنه جسم، وأن الجسم لا تكون فيه قوة غير متناهية، وما ذكروه في ذلك.